إبداعات الكتاب

التأريخ وحكايات الجدة

بقلم: د. رﺟﺎء ﺻﺎﻟﺢ اﻟﺠﺒﻮري

كان الصغار يتحلقون حول الجدة تلك الأمسية، إنه موعد الحكاية. اصطفّوا في نصف دائرة، يفترشون بساط غرفة الجدة القديم، وهم يستعجلونها للبدء في سرد القصة. كانوا في قمة الحماسة والتشويق، رغم أن الجدة لا تروي سوى حكاية الدعسوقة والصرصور والجرذ؛ تلك الدعسوقة التي كنست بيتها لتجد فلساً، وفلساً آخر في مخزن الحطب، وثالثاً تحت كومة القش…

ضحكت البنت الصغرى حينما ذكرت الجدة أن الخنفساء أخذت المال إلى السوق لتشتري به ثياباً جديدة وحُمرة لتبدو أجمل في عيون الخاطبين. وتوترت الفتاة الكبرى وشحب وجهها حينما تقدم الصرصور لخطبة جميلة الدعاسيق. وهمست الأم، المتظاهرة بالانشغال، قائلة:
_ لو أنها اشترت لنفسها بيتاً بدلاً من هدره على الثياب ومساحيق التجميل…

وحُبست أنفاس الصغار، وتسارعت دقات قلوبهم حينما تأخّر الجرذ في العودة إلى البيت، لعلمهم أنه قد علق في قارورة العسل. ذلك لأنها ليست المرة الأولى التي تقص فيها الجدة تلك الحكاية على مسامعهم. إنها حكاية عمرها أجيال؛ الكل يعلم أن الخنفساء ستجد المال تحت حزم الحطب وكومة القش وفي كناسة الدار، ولا أحد يشك أنها ستنفق ثروتها على الحُمرة والخُطّاب، والجميع على يقين أنها سترفض الصرصور حينما تصرخ بوجهه:
_ خنفس خنفس أمك …

العجيب أن الجميع كان يصغي باهتمام مرةً بعد مرة، ولم نتمكن يوماً من منع أنفسنا من الاستماع إلى حكايات نعلم نهاياتها، ولم نستطع أن نلجم دقات قلوبنا المتسارعة أو نبطئ لهاث أنفاسنا أو نقول لأنفسنا: “رويداً، ليست إلا حكايات مكرورة دأب التأريخ على قصّها مراراً…”

ربما لأننا لا نزال نأمل أن يبزغ على ليل تلك الحكايات فجرٌ جديد.

ننصت ونقرأ على أمل:
– ألا يسمح الأمير الصغير للثعبان أن يعطيه لسعةً قاتلة تحرر روحه لتحلّق في وطنه البعيد في مجرة أخرى،
– أن تعدل آنا كارينينا عن فكرة إلقاء نفسها تحت عجلات القطار،
– أن تقترب الباخرة التي لوّح لها روبنسون كروزو قبالة شواطئ أستراليا أكثر، لتقله عائداً إلى وطنه،
– أن لا يموت غاندي بطلق ناري،
– أن يستقر دوق فليت في كوكب الأرض،
– أن تعود فانتين لتأخذ كوزيت من نُزل واترلو، دون أن تموت بالسل…

ننصت لسرديات التأريخ المعادة جيلاً بعد جيل لأن سراج الأمل لا يزال متوهجاً في أرواحنا؛ لأننا لم نزل نأمل أن يفكر التاريخ -ولو مرة واحدة- قبل أن يغتال أبطال حكاياته، أن يحكي لنا حكاياتٍ جديدة لا يموت أبطالها، ولا تنكسر قلوبهم في نهاية المطاف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى