كان يوما روتينيا كأي يوم أقضيه في الشغل… لم يكن مختلفا في شيء إلا في دخول “سيلفيا” المفاجئ الذي سبب ضجيجا في مقر العمل الهادئ… عادة ما كانت تدخل “سيلفيا” بشكل متزن وغير ملفت للانتباه، لكنها اليوم دخلت وقد أحاطتها فرقعة من الضوضاء، وهالة من المرح، مع شيء من الضحك المتقطع، وكثير من الكلمات الهنغارية التي لم أفهم معناها… لقد كانت تكلم أحد زملاء العمل الهنغار كما لاحظت… و”سيلفيا” –حتى أُعرفها لكم- امرأة هنغارية متوسطة الطول، معتدلة البدن، خضراء العيون، قمحية الشعر، عمرها يناهز الخمسين أو يتجاوزه قليلا، حلوة اللسان، كثيرة الكلام، مرحة الشخصية، طيبة الطباع، مراعية للآخر… حتى إنك لتحتار وتتساءل ما إن كان انتماؤها فعلا للهنغار ذوي الطبع الخشن والتعامل الفظ… ما يميز سيلفيا أنها ماكنة استهلاك للوقت، فإذا بدأت الحديث معك فإنك لن تنتبه للوقت وهو يهرب منك هروب اللص من العدالة…
دخلت سيلفيا وكنت جالسا على جهازي… حيث لم يكن لدي عمل كثير لأنني أنهيت ما في يدي ورحت أرتبه لأنتقل إلى شيء آخر قبل أن آخذ استراحة وأنهي دوامي، وعندما لمحتها تقترب من بعيد لاحظت شيئا غريبا عليها، شيئا غير دخولها المسرحي السابق… إنها لم تكن كما اعتدتها، كان هناك شيء مختلف في هيئتها رصدته حواسي وأعميت عنه نفسي، لذلك انتظرت منها الدنو أكثر لأتثبت منها، فلما أقبلتْ وتقابلتْ ارتسمت على قسماتها ابتسامتها الغريبة التي كانت تفزعني في أول تعارف لنا، ثم ما برحت أن اعتدت عليها لاحقا إذ عرفت بأن هذه هي طبيعة ابتسامتها… ودون مقدمات ألقتْ “سيليفيا” التحية من ثنايا شفاهها التي حافظت على ابتسامتها العريضة فبادلتها السلام… وكعادتها جلست إليّ لتتحدث وكنا اعتدنا الكلام سويًا مع اقتراب نهاية كل دوام…
دخلنا في حديث عام، ولم تمر الدقيقة الأولى حتى أشرتُ لحذائها المميز أسألها عنه، لقد كان حذاءً أسودَ متقن الصنع، متين الخياطة، جميل الزخرفة، وكان أغلب الظن أن صنعه يدوي، وقد ألفتْ “سيلفيا” ملاحظاتي في هذا الباب إذ أنّي اعتدت سؤالها كلما رأيتها ترتدي شيئا جديدا فذوقها كان مميزا جدا، ولا يخفى على أحد يراها تلك البصمة الفريدة للأشياء التي تنتقيها وترتديها، لذلك كانت الأسئلة تتوافد عليها مستفسرة لمعرفة شيء من التفاصيل عمّا تقتنيه، لكن الحذاء هذه المرة بدا شيئا آخر… كان مميزا أجل، وكان فريدا حتما، لكنه قطعا لم يكن من اختيارها أو من ذوقها، بل بدا لي شيئا لا ينتمي تماما إلى ثقافتها وبيئتها، هذا ما جزمت به لأنني بتُّ أعرف جيدا ميولها وذائقتها في الاختيار… هل كان مستوردا يا ترى؟ سألت نفسي وأجبت دون تأخر “ربما… ربما يجب أن أسألها هي لأتيقن من الأمر”… وجهتُ لها السؤال بعفوية تامة بعد أن أبديت إعجابي بشكل حذائها الأسود الجلدي ذي النقوش والزخارف التي يشع منها إبداع الصانع ومهارته…، وأعطيتها نبذة تحليلية دقيقة عنه بداية من شكله الانسيابيّ الحاد، وصولا إلى خياطته المميزة، وقوفا عند الأشرطة الجانبية، وتعريجا على ما نقش عليه، انتهاءً عند يدوية صنعه وأنه يحمل ريح ثقافة تختلف عن ثقافتها…
تهلّل وجهها، وعاودتها ابتسامتها، التي كانت أعرض وأكثر انفتاحا حتى بانت نواذجها، وأكدت لي ما قلته، لقد كان الحذاء يدوي الصنع بالفعل، ولم تشترِه هي أو تختاره تماما كما توقعت، لكنه لم يكن مستوردا أيضا بل كان هبة أو هدية، ودون أن تتيح لي فرصة الاستفسار، أو السؤال، أو تأكيد شكي… استأثرت بالحديث وراحت تقصًّ علي قصته فقالت لي: “إن لي ابنة تشتغل ممرضة، وهي من الممرضات اللائي يؤدين خدماتهن داخل المنازل، تزور المرضى العاجزين عن الانتقال إلى المشفى خصوصا كبار السن، لتعتني بهم فتحقنهم بالأدوية أو تراقب صحتهم، أو تزودهم بتعليمات صحية معينة حسب الحالة… ومنذ فترة كانت ابنتي تداوم على بيت امرأة عجوز كبيرة في السن، كانت مريضة وأيضا كانت مقعدة، فقد شل نصفها السفلي بسبب حادث قديم جعلها تلزم كرسيها المتحرك، لذلك عندما مرضت كان انتقالها إلى المشفى من أجل المعالجة أمرا شاقا بالنسبة لها حال دونه شللها وصعوبة تنقلها، لذلك عاينها الطبيب في منزلها ولمّا شخص حالتها وصف لها الأدوية اللازمة وكلفت ابنتي بمراقبتها… فكانت تزورها مرة في الأسبوع لتحقن لها الدواء وتراقب حالتها، ولأن العجوز أَنِسَتْ لابنتي وابنتي أَلِفَتْهَا، فإن علاقتهما لم تكن مجرد علاقة مريض بممرض، بل صارت علاقة صداقة متينة، وأصبحت ابنتي تساعد العجوز في أمورها المنزلية قبل أن تعود إليّ، واتخذت العجوز منها حفيدة لها فكانت تعاملها كما لو أنها من نسلها، وصارت زيارة العجوز بالنسبة لابنتي فرضا أسبوعيا يجب القيام به… حتى بعد تماثلها للشفاء كانت ابنتي تزورها…، وفي أحد المرات انتبهت طفلتي إلى أحد الأحذية الذي كان في منزل العجوز… كان شكله رائعا وغريبا في الوقت ذاته… لم يكن كالأحذية التي نرتديها هنا، وبسبب الفضول الذي اعتراها سألت صاحبتها عن الحذاء فأخبرتها قائلة:” لقد كانت عندي يا ابنتي هواية غريبة، قد تضحكين منها إن أخبرتك عنها… أنا كنت أحب جمع الأحذية، وكنت أشتريها من مختلف البلدان، ومن شتى البقاع التي كنت أزورها في سفراتي… قضيت سنوات وأنا أجمعها دون أن أرتديها، وأكنزها في بيتي كتحف أثرية… تقدمي وافتحي ذلك الدولاب… هناك ستجدين عشرات الأحذية المتنوعة حصلتُ عليها من أماكن مختلف، لكل حذاء قصة، ولكل حذاء هوية، ولكل حذاء انتماء ثقافي، وكل حذاء ينتسب لأمة من الأمم… شاءت الأقدار يا بُنيتي أن يصيبني الشلل في مثل هذا العمر، وكأن هوايتي جاءت لعنة علي… أن أجمع الأحذية دون لبسها… أحيانا أعتقد أن الله سلط علي هذا… لأنني لم أقدر نعمة القدمين، وأهنتها بكنز أحذية كان يجب أن تُنْتَعَلَ فيها، أهنتها لأني رفعت مكانة المُنْتَعَلِ على المُنْتَعِلِ، لا أعلم ربما لا تكون لعنة كما قلت ربما هو نوع من الابتلاء لأشكر الله، عندما أتابع الأخبار وأرى الآلاف من اللاجئين والمشردين ممن يسيرون حفاة في هذا البرد على الثلج، أو أرى آلاف الأطفال من الأفارقة يجوبون الغابات والأحراش حفاة الأقدام أفهم الحكمة… وأستوعب الدرس، ثم أحمد الله… لقد كنت أجمع الأحذية ولم أرتدِها، وها أنا أشتاق لأن أنتعلها وأمشي بها… لكنني فقدت الشيء الذي أضعه فيها ليَهَبَهَا الحياة، لقد ماتت أحذيتي، وانتحرت هوايتي يوم فقدت قدرتي على السير، والآن ما عادت لهذه النعال البائسة من نفع… هكذا تسلطت عليّ هوايتي يا ابنتي… يمكنكِ أن تأخذي كل هذه الأحذية فأنا لست بحاجة لها…”
وهكذا منحت العجوز كامل أحذيتها لابنتي التي ترددت في قبولها، لكنها لم تجدْ مفرا تحت إصرار المرأة التي ألحّت عليها وأخبرتها أنها الأجدر بالحصول عليها… لكن هل تعلم ما الغريب في الأمر؟
سألتني “سيلفيا” فأجبتها:”العجوز استمتعت ولم تستمتع… قضت عمرها تحاول إرضاء رغبة غريبة، فأصابتها سهام الأقدار في عين رغبتها، واقتنصت جوهر الرغبة فقتلتها وأهلكتها… كانت هوايتها متعة لها لكنها فقدت متعتها، وفقدت شيئا أهم من الهواية والمتعة… فقدت الأصل الذي يعطي الحياة لهوايتها ويؤجج رغبتها لها… ولو أن لها القدرة لتسير مجددا فإنّي أعتقد أنها ستسير حافية القدمين بقية حياتها كفارة عن خطيئة تقديس الفرع على الأصل… تقديس الزائل على الباقي…”
-أجل هذا شيء، وقد أصبت فيه، لكن الغريب الذي أتحدث عنه يتعلق ببقية الأحداث… عندما أتت ابنتي بالأحذية إلى المنزل وجرَّبَتْهَا لم يكن أحد فيها على مقاس قدمها، إذ إن قدم العجوز أصغر من قدمها… عندها فكرت ابنتي بالتخلص من الأحذية أو منحها لشخص آخر، فأخذت أنا أحدها من باب الصدفة لأقيسه على قدمي، فوجدت أنه يناسبني وأن مقاس قدمي كمقاس قدم العجوز تماما دون زيادة أو نقصان، فكانت كل تلك الأحذية من نصيبي، وكنت سعيدة جدا بالحصول عليها… كل حذاء له قصته… كل حذاء له هوية… كل حذاء له أصل وانتماء… ما أدهشني هو روح المصادفة التي سار بها كل شيء، لقد جربت الحذاء بدافع التجربة فقط، فعندما رأيت ابنتي تنتعل أحد الأحذية وهي تحشر قدمها فيه حشرا تذكرت قصة ساندريلا الشهيرة، كان من المرح أن أجرب قياس الحذاء أيضا قبل أن يقيسه غيرنا، ولم أكن أعلم أني أنا ساندريلا هذه الأحذية… هذا جعلني أفكر مليا بالأمر، وجعلني التفكير أصل لبعض من يقينيات الحياة… يكدُّ البعض ويُفني حياته دون أن ينال منها شيئا، ويكون آخر جالسا لا يفعل شيئا فيأتيه ما أفنى عليه الأول عمره على طبق من ذهب… إن الحياة غير عادلة… لقد قضت العجوز حياتها في السفر وجمع الأحذية لكنها لم ترتدِ أي حذاء من الذي جمعته… في حين كنت جالسة في بيتي حتى حصلت على العشرات من الأحذية الفريدة والجميلة والغالية… لقد حصلت على أحذيتها… ومقاس قدمي مطابق لمقاس قدم العجوز تماما… وكأن هناك قوة خفية سَلَبَتْ من العجوز لتعطيني… الحياة غير عادلة حقا… هذا ما توصلت إليه وقد تملكني شيء من الخوف… واعتراني سؤال عظيم… ماذا لو سَلَبَتْ الحياة مني لتعطي لغيري كما حصل مع العجوز؟
أجبت “سيلفيا” بعد أن تأملت كلامها جيدا: “لا أعتقد يا سيلفيا لا أعتقد أن الحياة غير عادلة… ولكن ربما يكون هذا منطقها الذي لا نفهمه، أو لا ندرك طريقة اشتغاله… ما مُنِحَ لك لم يُسْلَبْ من العجوز وما سُلِبَ من العجوز لم يُمْنَحْ لك… إنه نظام غامض أكبر من منطق الأخذ والعطاء… وربما للحياة ميزانها الأعرج الذي يتوازن بالميلان لا بالاستقامة… ميزان تختلف طريقة وزنه عن قسطاسنا… أو ربما يا سيلفيا أن هناك شيء أعظم من هذا وأكبر… شيء يشكل جوهر العدل وما المنح والسلب الذي نراه عيانا إلا وسيلة من وسائل تحقيق التوازن الوجودي… توازن لا تدركه أرواحنا الشقية فما سُلِبَ منا قد يكون نعمة علينا، تماما كالشيء الذي وُهِبَ لنا، وما وُهِبَ لنا قد يكون نقمة علينا، تماما كالشيء الذي سُلِبَ منا، قد لا نعرف نفعنا من ضرنا، وقد لا نستطيع تحديد الحكمة وفهمها، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن الحياة صفقة كبيرة ونحن مراهنون فيها، قد نفوز وقد نخسر والشيء الراجح أنه أدرى بأنفسنا منا…”
نظرت “سيلفيا” إلى حذائها ثم تجهم وجهها قليلا بعد أن اعتراها شيء من الخوف الغامض، نفضته عن نفسها بابتسامتها الغريبة ثم نظرت لي تتأمل وجهي… لقد تمكنتْ من فهم جزء من الحياة… لا نحصل على السعادة إلا بقدرٍ من الشقاوة… “الحياة صفقة كبيرة تقوم على التبادل لا يوجد شيء بلا مقابل…” ردّدتْ هذا مليا ثم همهمتْ وهي تغادرني “ما تحصل عليه اليوم تدفع ثمنه غدا، وما تدفع ثمنه اليوم ستحصل عليه غدا…”