تحتشد في سمائي غيوم داكنة و تغشى روحي عتمة كئيبة حين أمنح ذكرياتي سمة الأرقام ،فأتذكر أنّ أول يومٍ لي على مقاعد الدراسة كان قبل أربعين سنة ،وأني دخلت الجامعة منذ تسعة وعشرين عاماً ،و كيف أني بعد عامين من الآن ساحتفل بيوبيل تخرجي الفضي ، فأسرع إلى كتاب الصور علّه يكذّب ذاكرتي ؛ لأكتشف أني كنت هناك منذ أكثر من أربعين صيف و صيف ، فأهرب من سرب الأرقام والصور الزاحفينِ نحو عقلي كغوغاء جراد ، إلى هاتفي الذكي ، فأفتح صفحة ذكريات الطيبين ، وأنقر على أول رابط الكتروني يصادفني ، فيصدح علي الحجار قائلاً:
_ما تسرسبيش يا سنيننا من بين ايدنا .
فيأخذني صوته الى البعيد فأسافر على بساط الحنين إلى صالة شاسعة يحرس بوابتها عريشة عنب مورقة ، بيت كبير ؛ أبٌ ،و أمٌ ،وجدةٌ ،وصبيةٌ وفتيات .
تلفاز من طراز قديم ببدن خشبي يكلله غطاء مُخرم مشغول باليد ،يستريح على طاولة خشبية أنيقة يغطيها مفرش مكشكش من ذات الطراز ، وصوت الاغنية ذاتها يجلجل في أركان المكان ، فيقفز عقلي ليخبرني أن التتر ذاك عُرض لأول مرة قبل أكثر من خمس وثلاثين عام؛ فأوقن أنها الحقيقة ؛ لقد تسرسبت سنوات العمر من بين اصابعنا كما يهرب الماء من حفنات الظامئين ، ذابت كما تفعل حبة البرد في كف طفل ، تقافزت كحبات لؤلؤ فرّت من عقد مفروط ، وهاي هي عتمة الجماجم تنيرها اقمار من الفضة .
ما بين حرب، وحرب ،وحصار ، وانهيار دولة ،واقتتال على الهوية ،وتهجيرٍ بالقسر وعودة ،وفقد ،ودموع ،و ضحكات بين هنا وهناك ،وأحلام ودعناها ، واخرى بذلنا الدمع والعرق لبلوغها ، وأخرى لا تزال تنتظر .هكذا مرقت سنواتنا نحن جيل الحرب مضت مسرعة كهدنة قصيرة بين معركتين .