مقالات الكتاب

بضع وأربعون

بقلم د. رجاء صالح الجبوري

بعدَ بضعٍ وأربعين سنة امضيتها على سطح المستديرة .. بكل ما مرّ فيها من برد أربعين شتاءاً وشتاء ، وبراعم بضعٍ وأربعين ربيع، وقيظ كل مواسم الصيف ، و كل أوراق الخريف التي غادرت اشجارها عاماً بعد عام.
ستتخطى قصصك الصغيرة ، كالقلم الذي أضعته قبل امتحان العلوم ، والشطيرة التي سقطت منك في بركة الوحل؛ بينما كنت تلهو وتطرطش بحذائك المطاطي ذات صباحٍ ماطر، وساعة اليد الثمينة الذي سقطت منكَ سهواً في احتفال الجامعة ؛ لتضيع إلى الأبد ..
والشعور بالضيق الذي لبّد سمائك حين أنَّبَك الأستاذ على خطأ اقترفته.. واصفاً فعلك ب «الخطأ القاتل» .
كلها ذكريات غاب عطرها ، وجف نسغها فما عادت قادرة على أن تحرك ولو شعرةً في رأسك.

بضع وأربعون سنة من الذكريات؛ القافلة اضحت مثقلة بما هو أشدُّ حضوراً ، وصار لزاماً ان نتخفف من لِمام القصص.
تخطيتَ الأربعين، و صار الصمت رفيق احاديثك ؛ فواحدة من بين كل سبع كلمات تزدحم في حنجرتك تستحق أن تولد ؛ لتبقى شقيقاتها الست حبيسة زنزانة الاثنان عشر ضلعاً . لأنك ببساطة أيقنت ان الصمت أبلغ ، و محتومٌ علينا أن ننتقي أيَّ معركة سنخوض؟
ولما انتصَفتَ الأربعين صرتَ تقول :
_هااا؟
متظاهراً بأنك لم تسمع.. لأنك لا تريد أن تسمع.. فالسماع معرفة .. والمعرفة موجعة ..
ستستحلي لعب دور الغبي الساذج.. الدور الذي احتججت حين نُسب إليك في ثورة عنفوانك .. ذات ربيع وليد..
واليوم تتمنى لو كنتَ بالفعل ذاك الساذج الذي لم يستطعم مرارة المعرفة ..
حين تنظر للمرآة لترَ وجه أحد أبويك..
كلها تعني.. أنها كانت بالفعل «بضع وأربعون»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى