بعد منتصف الليل، شاشة الحاسوب تطلق ضوءها على وجهي، أتأمل صفحة فتحت فيها «الإيميل»، لم يصل شيء بعد، شردت قليلا في الشاشة واستنكرتها متافعلة بحواجبي ووجهي مع حركة يدي التي لوحت بها في الهواء، لست من محبات التكنولوجيا كثيرا، ما زلت أعشق الحياة البسيطة في الواقع، وتهتز نفسي للرسائل الورقية أكثر، لكن هذه التكنولوجيا شر لا بد منه، لم تكن أمامي وسيلة أخرى لأتواصل معه، كانت الرسائل الورقية تلعب دورها على أكمل وجه في السابق، لكنها لم تعد كذلك الآن للأسف، اشتقت رائحة الورق الأصفر والحبر الأزرق السائل، أين كانت الرسائل تصل طازجة، تحمل الأشواق والروائح والأثر، تلك الرسائل حقا، وقد اضطررت بسبب تغير الأمور، وانقراض عادة التراسل الورقي وصعوبتها إلى مسايرة مدّ التطور فأنشأت بريدا إلكترونيا كان يكفيني التواصل معه، ولم أكن في حاجة إلى غيره.
أذكر أول مرة فتحته فيها، تخبطت في الخطوات لكنني استكملت الأمر على أكمل وجه، حصلت على إيميله من آخر رسالة ورقية أشار فيها لضرورة التطور والتعامل بالتكنولوجيا لأن إرسال الأظرفة البريدية صار عملية جدّ معقدة، مكاتب وطوابع وامضاءات، وتعهدات، وتفقدات، وانتظار، ومصادقة، ورمز تتبع، وإجراءات أخرى عديدة «وكأنك تبعث مخطوطة برنامج نووي» على حد تعبيره، أذعنت للطلب وأنشأت حساب الكترونيا، واستطعت فهمت أساسيات التراسل، لم يكن صعبا للغاية، أدخلت العنوان الإلكتروني، وكتبت الرسالة، ونقرت على «ارسال»، فوجدت الرسالة وصلت مباشرة بعد تلك النقرة البسيطة، كان سريعا، لا يملك حس الانتظار، ذلك الانتظار الذي نتحرق فيه لمعرفة ما ستتضمنه الرسالة المختومة المختبئة في ظرفها، رغم هذا فقد كان للبريد الإلكترونيّ أيضا أشواقه، أذكر أول رسالة استقبلتها منه، كان قلبي ينبض بشدة، نص طويل أخذت ألتهمه، كان بعد منتصف الليل، وكان ذلك هو موعد رده عليّ غالبا، مما يجعلني أتفقد بريدي بعد الساعة «00» دوما.
ابتسمت، لقد أطال هذه المرة هل نسي أمري أم أنه مشغول؟، اعتراني هاجس غريب، ربما قرر أن يتخلى عن هذه العادة، أو أنه لم يعد يستعمل «الإيميل»، هناك الكثير من الوسائط الأخرى الأحدث والأسهل، يتحدث عنها الناس وتكلمني عنها صديقاتي كل يوم، منصات ومواقع تتوالد كل يوم وتظهر كل دقيقة بمسميات مختلفة، وبمزايا جديدة ومتطورة لا أعرفها ولا أريد أن أفعل.
لعله انجذب إلى إحداها لسهولة استعمالها أو لمزاياها العديدة التي تختلف عن البريد الفقير الذي يرسل ويستقبل فقط، خمّنت هذا، راودتني هواجس وشكوك ومؤامرات فقد أحسست أنه يبتعد ويتركني هنا مع بريدي وحيدة ليجوب تلك المنصات المزعومة وصحت داخلي: «لكنه يعلم أنني لا أستخدم غيره»، تحولت هذه الشكوك إلى ثورة سرعان ما أخمدتها وأفشلتها ونفضت عني بقاياها ورحت أتحرك بين الرسائل القديمة، «ليست المرة الأولى التي يتأخر فيها إنه متأخر دوما»، واسيت نفسي ثم فتحت إحدى الرسائل عشوائيا أملأ بقراءتها وحشة الفراغ
«سناء وَجْدٍ يُعمي… ونفخ ريح يخنق… كلمات لا تعني أحدا لكنها خطت… تأكل البصرا… وتمتح من سر الخلائق قبسا… فلم تسكر أحدا… كان الجميع صاحيا، نظرت إلى درويش كان يهز رأسه ذات اليمين وذات الشمال، وما برح أن دخل حالة وجد أزلية لا يدركها المتعلقون بحبائل الخارج المستمسكون بجدران الظاهر، آه أفلا تسكبين لي الفيض وتعزفين لي موشح العشق القديم… إني أغيب إذ أغيب إذا اشتد ثقل الحضور، وإني حاضر إذا ما تماديت في غيابات الغياب… هرطقات أليس كذلك؟ حسنا تابعي معي لأنقلك من ضفة الحيرة إلى مملكة الفهم…»
أخذني السرد بعيدا، كنت أجوب به تفاصيل عديدة وغبت عن نفسي إذ قرأت كلامه، له سحر غريب، يجعلك شيئا في تلك العوالم أو يحولك لتكون تفصيلا من تفاصيله البسيطة،
انجرفت مع القراءة وكنت لا أكمل القراءة حتى أنتقل إلى أخرى وأخرى، لقد قرأتها وقرأتها حتى حفظتها وفي كل يوم أكتشف وجها جديدا كلما قرأتها، معنى آخر توَّلَد دون أن أدري، كنت أقفز بين الرسائل وأتخيل، أغيب ثم أتذكر اللحظات التي أرسلها فيها، وبينما أنا في انتقالاتي بين الرسائل لمحت علامة البريد الوارد الجالسة في طرف الشاشة تصير داكنة وارتسم عليها الرقم واحد «01»، هناك رسالة جديدة، هرعت وضغطت على الأيقونة، فتحت الرسالة متلهفة بسرعة، فوجدته اشهارا غبيا، خاب ظني، فحذفته وغرقت في تأملاتي لا أفعل شيئا.
تنفس الليل من شباكي فزحفت أنفاسه الجليدية على جلدي، واستنشقت هواء باردا أزعج أنفي وأفسد راحتي، وفي تلك اللحظة شعرت بوحشة تجتاحني، وفراغا يملؤني وكأن كل شيء هجر داخلي فصار أطلالا، لملمت نفسي بتثاقل وقمت من مكاني وتوجهت للنافذة أغلقها، تلاعبت النسمات بخصلات شعري وتشتت عيوني بين أنوار خائبة باهتة، وألحان متعبة، وأصوات تنبعث من المنازل، كان كل شيء منهكا، ولم يكن غير الليل وأنفاسه نشيطا يستمتع بانسداله علينا، وخزني البرد، اغلقت الشباك، وتحركت تاركة الغرفة واشعاعات شاشة الحاسوب تنبعث منها كئيبة حزينة، ولم أجد نفسي إلا وأنا في المطبخ.
أوشكت أن أبتسم، «قهوة»، كان سيحضّرُ قهوة وهو يتثاءب ويلقي محاضرة عن فوائدها العديدة، ابتسمت كالبلهاء، لم تكن لي رغبة في شرب قهوة لكنني حضرت كوبا، أخذته وعدت إلى الغرفة، وجدت شاشة الحاسوب انطفأت فحرَّكت الفأرة ورأيت على صفحة البريد اشعارا، «إشهار آخر» ردَّدت بامتعاض، وحرَّكت المؤشر تجاه علامة سلة المهملات لحذفه حينما تخطفت عيوني عندما تحركت على طول رحلة المؤشر تجاه علامة الحذف كلمات لم تكن إلا كلماته، ارتعشت ذراعي وكادت القهوة تندلق علي، وضعتها على المكتب، وجلست إلى الحاسوب، وفتحت الرسالة:
«هل تأخرت عليك ؟ لن أعتذر أنت تعرفين هذا … ودون إكثار كلام وهذر يا عزيزتي فقد كان هناك ما يشغلني… وديعة قديمة، تحمل رائحة شمع أسكرته ناره وحبر أغواه ورقه فتاه فيه… «ميقات الليل والنهار، وأحلام سرمدية وأستار…» كنت أمام زجاج ومرايا ولم أجد انعكاسي هناك… واعجباه ألا يفترض أن أكون متواجدا في كل سطح لامع مصقول؟! رحت أسير دون أن أجد لي أثرا عليها وقد ازدحم فكري وامتلأ قلبي، وكنت ضائعا دون حظ… كذرة غبار لا حيلة لها في يوم مهتاج تتجاذبه الأهواء وتثور فيه الثوائر… أسير المرايا والزجاج، أهيم في فلاتها دون دليل، تأكلني الهواجس، لأشهد شيئا من عذاب لا ينتهي… وقد تثاقل إحساسي بالزمان إن لم ينعدم، ولعلّ لا زمان في ذلك الفضاء الماكر الذي يلفني… وبينما أنا في متربتي وفاقة حيلتي ألقي في ذاتي شيء من الالهام بالبحث عن وديعة قديمة، فنزل العزم ضيفا في صدري وانطلقت نشيطا…»
كانت رسالة طويلة مُشَوِّقة احتجت أن أقرأها عديد مرات، رسالة حمالة وجوه أخذنني بعيدا، واستقر بي الوجد في قراءتها وتأملها إلى أن أجبت عليها في ليلتها رغم الوقت المتأخر، حررت نصي، لم يكن طويلا جدا، فقد كنت مشغولة البال وتفكيري مشتت، وتجردت من أبجدياتي وتجردت مني، هنيهة ثم عاودتها فطاوعتني وأرسلت النص وروحي تذوي، لم أملك طاقة حتى لمراجعة ما كتبت فأعقبته بملاحظة: «متعبة جدا، وراحتي هناك على الطرف الآخر، فليت الرسائل تحملها إلينا أو تأخذنا نحوها، لا تدقق كثيرا في النص كتبته نصف نائمة»، أغلقت الحاسوب فرأيت كوب القهوة، «نسيته تماما» ابتسمت رغما عني، أخذت رشفة منه لقد برد، غطيته وارتميت على سريري، أبحث عن راحة بعيدة.