مقدمة:
قسنطينة مدينة التفاصيل حيث تعانق الجغرافيا الفريدة التاريخ الحافل. المدينة المعلقة بصخرة البقاء كعاصمة ملكية للثقافة والجمال في وطن متميز بتنوعه.
فالتنوع التاريخي الذي عرفته المدينة والتركيبة البشرية الثرية والمتعددة، له دور كبير في اثراء موروثها الثقافي، لما للعواصم من أهمية، فالأمر لا يقتصر على العمران والتشييد بل يتعداه للتنوع والتفنن الظاهر في المأكل والملبس كأسلوب للحياة وكذا أساليب العناية بالجسد والتطبيب. ومن ثمة طرق العيش السليم ومستوى الرفاهية التي تبرزها الكثير من الممارسات اليومية للسكان.
الحمام المعدني…أسلوب حياة
تعلق جمال المرأة القسنطينية بعامل أساسي وهام هو النظافة، والذي كانت الحمامات المعدنية وانتشارها الكبير في المدينة ومحيطها أهم مظاهره. وقد كان لهذه الحمامات أهمية اجتماعية كبيرة، وحظيت بطقوس وتفاصيل مميزة مستمدة من عشق المدينة وأبنائها للتفاصيل، فلم يكن الذهاب للحمام بالنسبة للمرأة القسنطينية مجرد حدث عابر بل هو فرصة اجتماعية لإظهار أناقتها وحظوتها كممثل
لعائلتها ونسبها.
وتتعلق التفاصيل أساسا بـ: صندوق الأغراض أو ما يعرف محليا بالسابة وهو سلة مبطنة بقماش من الحرير من الداخل، تخصصها المرأة لأغراضها التي تحتاجها في حمامها من ملابس خارجية، منشفات، وملابس الدخول للحمام أو ما يعرف بالفوطة والتي عادة ما تكون باللون الأحمر والأسود. بينما تتميز فوطة العروس باللون الزهري المطرز بخيوط ذهبية. وبساط تستخدمه في الحمام.
ومع السابة تحمل المرأة ومرافقاتها للحمام محبس النحاس وهو وعاء من النحاس تحمل فيه كل ما تحتاجه في حمامها من مواد وأواني نحاسية مثل الطاسة المخصصة لصب الماء وغيرها.
هذه التفاصيل التي قد تبدو لنا اليوم غير ضرورية، بالأمس كانت جزء من أناقة النساء.
ويعتبر الحمام تقليد تدلل فيه النساء أنفسهن لأبعد الحدود، وهذا بالنظر للمواد المستخدمة في الاستحمام والتي كانت مواد طبيعية بامتياز مثل:
الصابون الطبيعي: كأحد متطلبات النظافة للشعر والجسم. كان يتم تصنيعه محليا، تضاف له بعض الخلطات لتعطيره وكذا لزيادة فعاليته في العناية بالبشرة وتنعيمها كمستخلصات الزيوت
العطرية.
الكـــاسة: لا غنى عن هذه القطعة في الحمام، وهي مصنوعة من القماش الخشن تستعملها لتخليص البشرة من الجلد الميت وذلك بفركها. وقد تكون قطعة الفلين بديلا لها.
ولـمشطة العاج المزينة بحروف ذهبية من اسم العروس مكانة هامة في جهاز العروس، وهي مخصصة لتسريح الشعر.
لا يتبادر إلى أذهاننا أن النساء قديما كان مفهومهن للجمال محدودا، بالعكس فقد صنعن لأنفسهن كريمات تقشير البشرة والعناية بها واستخدمنها بأسلوب أحسن مما نفعله نحن اليوم.
طقم نحاسي خاص بالحمام
فكان استخدام الطين يضاف له ماء الورد كقناع لتنظيف الوجه، كما استخدم مزيج زيت الزيتون والملح لتقشير البشرة، هذا دون أن ننسى الشبة المستخدمة بشكل واسع لتنظيف الجسم وشده.
وحرصت النساء على استخدام الليمون للقضاء على سواد بعض الأماكن والمحافظة على نظافتها.
كما استعمل عصير الليمون للبشرة والشعر الذهنيين، وهناك حتى من كن يستخدمنه للعيون ولمعانها.
ولا ننسى الحناء، فقد كانت لها مكانة كبيرة، استخدامها في تلوين الشعر هو بمثابة كسر للروتين، أو لتغطية الشيب. كما استعملت في تخضيب اليدين والقدمين خاصة بالنسبة للنساء المتقدمات في السن كمظهر من مظاهر الوقار. وكثيرا ما كانت تضاف لها مواد أخرى لدعمها وتكثيف لونها. واستخدمت الحناء كذلك ممزوجة بمواد أخرى مثل قشور الرمان المجففة للعلاج.
لقد حظي الحمام في مفهومه الاجتماعي بمكانة بارزة في المجتمع القسنطيني، فكان مظهرا من مظاهر الفرح مثل حمام العروس والذاكرة الشعبية للمدينة تحتفظ بهذا التقليد الذي لم يفقد بريقه إلا بحلول فترة العشرية السوداء بالبلاد وما تركته من تأثير في جميع المناحي.
يبدأ حمام العروس القسنطينية بتوجه والدتها أو إحدى قريباتها لحمام خاص من حمامات المدينة لإعلام القائمة عليه بأن العروس قادمة تحضيرا لاستقبالها، بصحبة رفيقاتها ومن هن في سنها. تخرج العروس على وقع الزغاريد إيذانا ببداية الاحتفال بها وتتوجه للحمام حيث يتم استقبالها في جو من الفرح بما يليق بزينة البنات، وتضاء الشموع في زوايا الحمام الأربعة، ويعطر الحمام كله بماء الزهر، كما يتم صب ماء الورد في “البرمة” المكان الكبير الذي يجمع فيه الماء.
في حمام العروس يتم استخدام كل ما سلف ذكره من تفاصيل لإبراز جمالها استعدادا لليلة العمر. وفور الانتهاء من الاستحمام تكرم والدة العروس الحاضرات في الحمام دون تمييز “بسينية قهوة” كما يقال محليا تقدم فيها ما لذ وطاب من الحلويات التقليدية المعروفة في المدينة، في حين يقدم للعروس مزيج من فاكهة الرمان وماء الورد المحلى. وما يزيدها جمالا وتميزا في هذا الجمع ملبسها الأبيض الحريري وكل الحاضرات تصدحن بالصلاة على النبي.
وكما كان للحمام رابطة قوية بالبهجة والاحتفال، كان أيضا له دور كبير في التطبيب والعلاج وكنموذج
حمام النفساء فبعد انقضاء فترة النفاس، تتوجه المرأة للحمام مصحوبة بمرافقة لها، وهذا لجبرها بعد عناء الولادة والتي هي في الغالب ولادة طبيعية تمت بالمنزل، بذلت فيها الام جهدا كبيرا. يتم تدليك المعنية بطريقة تستطيع بعدها أن تعود لنشاطها ومسؤولياتها. وعملية التدليك تتعلق أساسا بمنطقة الحوض والظهر، تكون فيها النافس كالعجينة في يد مدلكتيها. ويعتبر حمام النافس حلقة علاجية جد هامة لا تستغني عنها المرأة.
إن الحمام رحلة جمالية لها وقع روحي ومعنوي أيضا يتعلق بالتبجيل والحظوة والاحترام. فالضيفة العزيزة في نهاية زيارتها تكرمها صاحبة المنزل بتحميمة كما يقال محليا، وكذلك صديقات العروس ومن هن في سنها. وتجدر الاشارة لتقليد انقضى ولم يعد له وجود اليوم وهو “المسادنة” وهي امرأة تحظى بمكانة وتقدير كبير وثقة بين العائلات القسنطينية، امرأة مبجلة لأخلاقها وسنها، تكلف في الاعراس بدعوة الأصدقاء والمعارف لحضور حفل الزفاف.
تكليف هذه السيدة يبدأ بدعوتها لتحميمة مميزة، ويتم تخضيب يديها وقدميها بالحناء، وكسوتها بلباس محلي “قندورة بيضاء” أو زهرية اللون ليتم تكليفها بالمهمة فتكون هي سفيرة العائلة لبيوت الاحباب الذين سيتم دعوتهم للحفل.
وقد يشد انتباه الزائر لحمامات المدينة عادة لا تزال حتى اليوم، وهي حضور حبات البرتقال في أحواض الماء الساخن، فنساء المدينة يحرصن على أكل هذه الفاكهة بعد الحمام. وقد أثبتت الدراسات اليوم ما لفاكهة البرتقال من فوائد تجميلية تخص البشرة والشعر.
مدخل واحد من حمامات قسنطينة
فهو يحافظ على صحة خلايا الجلد لما يحويه من مضادات أكسدة، كما له تأثير على صحة القلب والوقاية من النوبات القلبية المفاجئة خاصة مع الارتفاع الكبير للحرارة داخل الحمامات. كما يضفي البرتقال على الشعر لمعانا ويحميه من القشرة ويمنح البشرة نضارة وشبابا، ربما لم تعرف النساء قديما كل هذه التفاصيل لكنهن لم يستغنين عن هذه الفاكهة في رحلتهن الجمالية.
وكبديل للبرتقال، كانت النساء يلجأن لفاكهة الرمان، والذي أثبت العلم اليوم انه صديق للمرأة في كل اطوار حياتها لما له من قدرة على زيادة هرمون الاستروجين. فاعتبر رمزا للخصوبة. كما له دور في زيادة الرطوبة للشعر والبشرة والاحتفاظ بنعومتها. وكذلك فاكهة السفرجل التي تستهلك في شكل مربى. فالمتفق عليه أن النساء بعد حمامهن كن يملن لاستهلاك الفواكه بأنواعها.