«زعموا أن… جميع الأشياء التي نحبها تغادر، تهاجر، تبتعد، تمارس الغياب، ربما لأنها تتعب من ثقل الحضور وعبء الوجود لذلك ترحل، ترتقي، تعرج… قالوا… إذا تعلقت بالشيء جَانَبَكَ وإذا قَصَدْتَ إليه حُرِمْتَ وصله… من قال هذا؟ لا أحد أنا أقول وأنسب إلى الغير لأُبرىءْ َساحتي من قصاص السؤال».
تحت جذع الشجرة كان متربعا يحاور نفسه ويتأمل الضباب الذي يُكلّلُ قمم الجبال، يسمع تغريد الأطيار، و يتحسس العشب الأخضر الفتي تثقله لؤلؤات الندى الصباحي الباردة، مدَّ يده نحوه، داعبه بأنامله كأنما يداعب شعر ولد صغير… تمسح عليه، و شعر ببرودة القطرات تلثم جلده، أَحبّ الإحساس الذي وَلَّدَهُ احتكاك أصابعه بالعشب النديِّ، استنشق طويلا أنفاس الصبح، فتدفق قطيعَ عاديات تغزوا صدره… استشعر كل شيء في فسيفساء حسية بلغت ْبه نشوة التوحد مع الأشياء «نشوة صوفية تربطني بكل شيء،، توحدني بالكون و تجعلني ضبابا وجبلا، طائرا، عشبا وابن غيم، نفح صبح وخشونة جذع…».
كان يدرك الحضور، لكنه لم يكن يبحث عن الحضور، كان يريد شيئا أبعد منه، شيئا ربما لا يفهمه ولا يستطيع التعبير عنه لكنه موجود حتما «موجود» لفظة مربكة، فهل نحن موجودون بكثافتنا وأشكالنا، بأجسادنا وحضورنا، ماذا عن الغائب الحاضر بظله وخياله أَنُسَمِّيهِ موجودا أم أنه غير موجود؟… إنه ليس ثقلا نحسه ولكنه خفة نحاول القبض عليها، إنه ذكرى، خيال، أثر… كلها ألفاظ مربكة وضيقة لا طاقة لها بحمل المقام»
تَبَسَّمَ وزَفَرَ، رفع يده من العشب مُسّتَلِذًّا عذوبة القطرات وحلاوتها، لكن وجهه تجهم عندما رأى منظر العشب وقد فَقَدَ زينته وألقه اللّذان كان له قبل أن يخطفهما بالتربيت على هامه، نظر إليه بحزن «يبدو أن في الزَّعْمِ شيئا من الصواب… على الأقل إن للأشياء فلسفة غيابحقا، تَبْتَعِدُ إذا تعلقنا، وتتعلق إذا ابتعدنا، حاضرة إذا ما غابت، وغائبة إذا ما حضرنا، نلاحق أطيافها، نعيش الغياب، ونغيب عن العيش… لكننا موجودون بطريقة ما، موجودون حتى مع الغياب…» قام من مكانه، أرهف حواسه مجددا، استرق دفقة شعور أخرى… ثم غاب…