لقد أراد ولدي أن يقص علي قصة من قصص كليلة ودمنه… فجاء إليّ راكضا كأنما هو براق الإسراء وصاح بي يا أبتي إني أعلمك كلمات، فقلت له: “ارويني من معينك…”
قال لي: ثعلب وحمامة وملك الحزين.
قلت له: أتاني نبؤهم من القديم.
قال: وما الذي علمته من حالهم؟
قلت: أن لا أتدخل فيما لا يعنيني بينما أنا عاجز عن درء ما يؤذيني.
قال: ذا في العموم يا أبتاه.
قلت: وما الذي عندك من خبرهم يا ولد…
قال: “ثعلب” سُلطة تفتك بالفراخ، “الفراخ” أحلام وأمال الحمام المستضعف… و”الحمامُ” شعب قليل الحيلة عاجز… يملأ الثعلب بطنه بالفراخ فيقتل أحلامه وآماله، ويأكل جهده وتعبه… ويمارس قوة الخوف يسنده المكر… وحكيم “ملك الحزين”… مثقف… على عاتقه تنوير الشعب “الحمام” وانتشاله من براثن “الثعلب” المحتال…
سألته: فما هو حاصل بين الثالوث؟
قال: “حمامةٌ” الشعب استشارت “ملك الحزين” المثقف فزالت سلطة “الثعلب” المهيب… الذي راح قاصدا المثقف-الملك الحزين- في الحين ورغم حكمة الأخير ويقظته، انجر خلف فخ الثعلب ودعايته، فانتهى من أمره وطمر تنويره وأزال تأثيره، وبقضاء الثعلب على الملك الحزين إما بأكله وإهلاكه تماما وإما باستمالته إلى جانبه ليتحول الملك الحزين إلى خادم مروجٍ لفكر وفلسفة الثعلب، فإن الثعلب عاد للحمامة بفخ جديد… لتعود الحمامة لوضعها القديم…
قلت: أليس من المفترض أن الحمامة تفطنت لحيلة الثعلب؟
قال: تفطن لها الملك الحزين ونبّه الحمامة لحيلة من بين الكثير، وباختفاء الملك الحزين ستكون الحمامة مهددة كما كانت منذ قليل.
قلت: وما حيلة الثعلب التي عاد بها؟
قال: أكل الملك الحزين واحتفظ بجناحيه، وبمكر منقطع النظير ثبتهما على جسده وقصد الحمامة وطلب الجزية والخَراج فقالت له ما علمها الملك الحزين، أن اصعد وخذهم بنفسك.
تنحنح الغادر وقال: “إذن لم تتركِي لي خيارا غير أكلك معهم” وفرد الجناحين المزيفين المثبتين على جسده، وراح يتظاهر برفرفتهما ليحلق بهما، فصرخت الحمامة هلعا وقذفت بأحد الفراخ التي التهمها الثعلب دون حشمة ولا حياء، وقالت متسائلة بجزع : “كيف فعلت هذا؟ كيف حصلت على الأجنحة؟!”
قال الثعلب: إنه سر…
قالت: سأذهب لأسأل الملك الحزين.
قال: هيهات إنه من الهالكين.
قالت: وما خبره؟
قال: هل تسمعين بفلسفة الثعبان المقدس.
قالت: لا
قال: “لقد اختار الملك الحزين أن يستحيل دما في أوصالي وحدة في نابي فوهبني نفسه لآكله، وقد نَمَت لي أجنحة بسبب هذا، وإن لم تطيعي أمري وتمنحيني القرابين سيؤول أمرك إلى مآل الملك الحزين…”، وطوى الثعلب جناحيه في تبجح وغادر… وصار الثعلب ينال كل يوم نصيبا من فراخ الحمامة كما يشاء، دون جهد أو عناء والحمامة عاجزة بسبب اختفاء ناصحها ومُقَوِّمُ تفكيرها…”الملك الحزين”… فكانت مصدرا لا ينضب يُمدُّ سلطة الثعلب الذي لا يساوي شيئا دون الحمامة الغبية… والثعلب يحدث نفسه مبتسما: “يكفي أن تحكمهم سلطة الأساطير وأن يؤمنوا بقدرتي لتسود شرائعي… ويصبح حكمي عليهم مطلقا لا حكما ظاهريا، حكم ينطلق من دواخلهم، يؤمنون بأني أضرهم وأنفعهم… وإن تكلم صوت العقل والحكمة فيهم، فلا يسكتنه غير الناب، لأن هذا يقوض الحكم ويهدم الأركان…” ثم لعق الثعلب المكار شفاهه بلذة وتلبّد في وجاره ينتظر ساعة المأدبة الأخرى…
-غريب هذا يا بني من أين لك به؟
ضحك فتاي ضحكة صغيرة كالثعلب وقال: لم نعد أطفالا لنتفكه بقصص على لسان الحيوان، تكون نهايتها عبرة من قبيل “الناصح غيره العاجز عن نصح نفسه” لقد تجاوزنا ذا الكلام…
ثم تركني وراح يعدو بنفس ما جاء به، فكأنما قابلت خيالا أو طيفا وكأن الذي سمعته كان حلما أو رؤيا.