مقالات الكتاب

ستُزهِر يوماً – قصة – الحلقة الثانية

د. رجاء صالح الجبوري

الصورة المرافقة للقصة والتي ستكون معنا على مدى ثلاثين يوماً هي لوحة باليرينا للفنانة التشكيلية المبدعة د. زهراء نوح

الحلقة الثانية
آلة الزمن
ستذهر يوماكان يحيى ينتظرني عند بوابة البناية؛ كما اعتاد أن يفعل كلما صحِبني إلى طبيب .. وكما في كل مرة أقبل إليَّ متلهفا :
_بشّري.
لذت بالصمت، وأنا أقول في نفسي :
_بمَ ابشر؟ طيبٌ أنت يا يحيى. أ ما زلت تؤمن بالمعجزات؟
فهم يحيى من صمتي أن لا جديد يستحق الذكر.
كانت خطانا تتجه إلى بيت أهلي ؛ لا يبعد البيت سوى بضع دقائق سيراً على الأقدام…
يسبقني يحيى كعادته بخطوتين أو ثلاث وانا أُناضل مسرعة على أمل أن أجاري خطواته الواسعة ، وفجأة يمتلا المكان بصوت موسيقى أعرفها جيداً ، تنبعث من سيارة تقف على جانب الطريق، ومع اول هزة وتر تشرع آلة الزمن بالدوران… ومع تسارع النغمات تدور الآلة أسرع فأسرع حتى تصل بي إلى تلك الجُنينة الصغيرة تسورها أشجار البرتقال من ثلاث جهات تعبث بأركانها أشعة شمس تشرين الشاحبة الدانية من مغيبها .. صرير ارجوحة قديمة يأتي من تحت عريشة العنب، حيث نتهادى انا واختي المنشغلة بقراءة “الحرافيش”، و ألهو أنا بحل كلمات متقاطعة في مجلة بصفحات ملونة… وصوت نجاة يأتي من شباك المطبخ الصغير…
_أما براوة براوة أما براوة .
وتنبعث مع صوتها الشجي رائحة الاطايب التي تعدها أمي، بينما تدندن بصوتها الأشبه بالجنة على أنغام محمد الموجي.
أسأل اختي :
_بحر معكوسة…؟
تتجاهلني عاقدة ما بين حاجبيها في إشارة لاندماجها مع حرافيش نجيب محفوظ.
ثم يدفع باب البيت طفل في الثالثة بشعر مرسل يغطي نصف رأسه، و معظم أذنيه ، و جبينه كقشرة بيضة علقت على رأس صوص صغير.. يبتسم الولد لتلتمع ابتسامته في عينيه الواسعتين كواحتي ماءٍ عذبٍ وسط صحراء.
_جاء أبي . يقول أخي مندفعاً نحو أمي التي لا تزال تغني لطبيخها..
يتوقف تدفق الموسيقى ومعه صوت نجاة لكن آلتي الزمنية لا تكف عن الدوران ويستمر سيل ذكرياتي في التدفق كفلم سينمائي لا تتسع لأحداثه الدقائق التي تفصلنا عن مرتع طفولتي ومهد أحلامي.
تلميذة نجيبة تحمل طموحات كبيرة أكبر بكثير من إمكانات المجتمع الذي نشأت فيه. هكذا كنت حين كنا لا نزال عائلة صغيرة مكونة من أم وأب وبنتين وولد صغير .
كان أبي يعمل في محطة كهرباء المدينة حيث نقطن..
كانت الأحلام لا تزال مُزهرة قبل أن تدوسها أقدام العابرين.
رُغم أنني لا أحب تصنيف الأيام إلى ايام جميلة وأخرى سيئة غير أن أسوء ذكرى مرت علي هي ذكرى وفاة والدي بصعق كهربائي أثناء أداءه لعمله.. ظل ذلك اليوم أبشع أيامي لسنوات طويلة.. بعده تغير كل شيء..
صرنا برعاية جدي ، وصار للعم علينا كلمة وللخال علينا خطوة ، وأصبح للجميع رأي في حياتنا؛ فأضحت حياتنا ملكية عامة لمجلس العائلة الكبير بعد أن كنا دولة مستقلة يحكمها أبواي… في البدء فرض جدي علينا أنا وأختي نوعية ثياب جديدة غير نوعية الثياب التي اعتدناها لظنه أن أبي كان مخطئاً حين أعطانا كل ذلك الفضاء الواسع من الحرية ؛ فالبنت تبقى بنت حسب ما يراه .. كان علينا أن ننتظر أن يكبر اخي ليصبح هو” والي الحَرم” لنتحرر من سطوة الجد المستبد وأراء مجلس الأسرة الموقر.
الاعتياد والتأقلم تلك شيم الإنسان اعتدنا نظام الحكم الجديد الذي ساد بيتنا، لكننا يوماً لم نعتد غياب أبي.
ثم تغير مسار حياتي يوم أُحبطت أحلامي.. حين رفض جدي التحاق أختي الكبرى بالجامعة لدراسة الأدب الإنكليزي بعد انهائها للدراسة الاعدادية بمعدل يؤهلها لذلك.
رفض جدي ان تُكتب في تاريخ عائلتنا أن فتاة دخلت الجامعة وخالطت الرجال.
انصاعت اختي للأمر صاغرة لتُساق بعدها كحمل يقاد الى مسلخه للزواج بابن العم الذي لم تفكر به يوما كزوج.
كنت حينها في الاعدادية.. فارتأيت أن أبتر معاناتي ، وأوفر على نفسي عناء الثورة ، والوقوف بوجه جدي الذي لن أجني منه سوى التعنيف ، و بعض الصفعات في احتمالات أسوأ.. تركت الدراسة لأتحول من فتاة حالمة إلى فتاة بسيطة تبذل جهداً عظيماً لضبط طهي الرز.. وتعلم أساليب العجن والخبز ولف ورق العنب بصورة متقنة ..
_ طالما سأكون ربة بيت فلأكن ربة بيت ممتازة.
يحيى هو ابن خالي الذي يكبرني بأربعة أعوام يعمل نجارًا في ورشة قريبة من بيتنا.. في الأشهر الأخيرة قبل أن أُخطب له كان يتردد على عمته التي هي أمي بشكل يومي أو شبه يومي لإلقاء التحية.. كنت ألحظ منه بعض الاهتمام فأقول لنفسي _ولم لا ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى