الصورة المرافقة للقصة والتي ستكون معنا على مدى ثلاثين يوماً هي لوحة باليرينا للفنانة التشكيلية المبدعة د. زهراء نوح
الحلقة السادسة
عنوان الحلقة.. “يحيى الإبن”
كان ثمة هاجس في داخلي يهمس لي أن يحيى حي يرزق في مكان ما… كنت أُكذب حدسي ذاك الذي خدعني حين صوّر لي أن المعركة كانت تدور في مكان بعيد عن زوجي.. مرت شهور الحمل ثقيلة موجعة كان كل يوم يمر تزداد فيه حاجتي إلى يحيى غير أن وجود امي بجانبي خفف من وجعي وشد من ازري كما أن زوجة خالي كانت تتفانى في رعايتي وكأنها تحاول ان تسكت ضميرها الذي يفتؤ يقرعها…
كانت تجاهر بالقول :
_أين كان عقلي يوم طردتك من البيت يمة.
وفي بعض الاحايين كانت تدعو على نفسها قائلة :
_يارب خذني إليك، و ردّ يحيى فقد تعلمت الدرس.
يا للأم المسكينة… كنت أعلم أن كل ما فعلته وتفعله كان بدافع حبها لابنها كانت في الماضي تعاديني لأنها لا تريد شريكا يقاسمها قلب ولدها والآن؛ ها هي ترعاني وترعي جنيني حباً فيه.
ربما لم يدرك عقلها ان للفؤاد منازل وأكبرها منزل الأم فلا أنا ولا ابني ما كنّا لنشغل قلب ابنها عن حبها الذي لن يبدده شيئاً حتى الموت.
بعد ستة شهور من غياب يحيى وضعت يحيى الصغير هكذا أسمته جدته لأبيه… خرجت يومها تركض في ممرات المستشفى وتصيح
_جاءنا يحيى… جاءنا يحيى.
هكذا هي الأمنيات… يدّخرها ملك موكل بها لا يطلقها الا لوقت معلوم و لا تأتي الا على طبق من الألم . فلا وردة تتفتح ولا شمس تشرق ولا قمر يبزغ إلا بميعاد.
تغير شكل أيامي بعد ولادة يحيى.. ابتسمت سمائي له بعدما لبدتها الغيوم طويلاً.
بعد انتهاء اجازة الوضع عدت الي عملي في ديسمبر كانون اول العام ١٩٨٢ كان قد مضى على غياب يحيى الأب ستة شهور.. وقبل أن ينتهي أسبوعي الأول في المدرسة كنت في الدرس فأرسلت المديرة في طلبي.. هرعت إليها.. كان هناك رجل بزي رسمي مدني يقف قرب مكتبها.
_تفضلي ست أزهار. الأخ قادم من مديرية بريد المدينة يحمل رسالة لك.
رحبت بالرجل الذي ناولني على الفور مغلفاً مفضوضاً وقرّب الي ورقة لأوقعها.. أُقِر فيها أنني استلمت البريد. كان مقاييس التعجب والفضول والوجل والتقرب في عقلي تشير إلى أعلى مستوياتها.. افرغت محتويات الظرف.. كان ثمة رسالة تزينها علامة الصليب الأحمر الدولي ورموز لوكالات حقوقية عالمية أخرى..
واخيرا شرعت بالقراءة
إلى أمي وزوجتي الغالية
أود اعلامكم أني بخير وأنعم بصحة جيدة… ولا ينقصني سوى وجودي بينكم.
يحيى ٣ أيلول ١٩٨٢
كاد قلبي يتوقف عن النبض ساعتها.. يحيى حي.. حي يرزق… استأذنت من المديرة وغادرت المدرسة باتجاه البيت حيث يحيى الصغير و جدّته.. دفعت الباب و ولجت دون استئذان.. كان الصغير ينام كالملاك في مهده وجدته تجلس إلى جواره كحارس أمين.
عانقتها فور دخولي ولساني يلهج :
_يحيى عايش… يحيى عايش.
سكبت هواملها على الفور… وتناولت الخطاب من يدي وراحت تقبله…
يومها احتفل كل الجيران والأقارب..وطرقت اطباق الحلوة واكواب الشربت كل أبواب المحلة، وتدفق الزوار على بيتنا الكل يهنئ ويبارك…
وحين فرغ البيت من الزوار جلست قرب العمة وكتبنا رداً لرسالة يحيى، كان وجود يحيى الصغير على رأس ما كتبناه. وغيرها من أخبار انتقالنا إلى البيت الكبير.
ترى كيف سيستقبل يحيى خبر ولاده ابنه الذي طالما تمناه؟
ها قد عدت إلى الحياة وعاد دقات قلبي تتطلع للغد الجميل.. صرت أحيى على قيد الأمل.
ومرت الايام والشهور والسنون، لا الحرب انتهت ولا الغيّاب عادوا. فذابت خيوط الأمل من بين أصابعنا لطول ما تعلقنا بها وتحول الصبر الجميل إلى انتظار مرير..
الصبي يكبر وتكبر معه أسئلته وتتسع في حياته الفجوة التي تركها غياب الأب.. كنت اغذيه بالذكريات.. واسقيه حب ابيه من نبع الحب ذاته الذي يملأ قلبي ..
ورغم كل هذا فإن الدنيا لا تهادن وعجلة الزمن لا تعرف الفتور ولا تكف عن الدوران.. فحين زار الوهن والضعف قلب والدة يحيى بعد ٧ سنوات على غياب ولدها لم يرحم حزنها على غياب ابنها.. بل ضربها بكل ما استطاع.. وحين طرق الموت بابها بعد معاناة طويلة لم تكن ضمن حساباته ان يمنحها فرصة علها تداوي ناظريها برؤية ابنها الغائب أو تحظى منه بوداع أخير … أبداً.. لقد حصد روحها رغم كل التوسلات ورغم دموع الصغير الذي شككت للحظة بقدرته على العيش دونها… اجل انها الدنيا لا تُمهل ولا تهادن… قررت أن لا أكتب ليحيى عن رحيل امه وظلت رسائله تستهل بعبارة :
أمي الحبيبة… زوجتي الغالية… ولدي وقرة عيني…..
يتبع