مقالات الكتاب

سهاد – قصة قصيرة – الرسالة الثانية

د. رجاء صالح الجبوري

الرسالة الثانية
إلى صديقتي الكاتبة :
_مساء الخير يا صديقتي
لقد خفّت حدة تلك الهبّات بعد ما انتظمت على تناول الدواء… والفضل يعود إلى طبيبتنا .
تعلمين؟ لقد تواصل زياد معي عبر واتس آب.. لا تقلقي يا صديقتي سوف أعطيه حظراً رباعي الأبعاد بعد المحادثة القادمة التي ستكون الاخيرة … فات الميعاد و كبرنا على هذه القصص. وستائر النسيان أُسدلت من زمان.
قال إنه الآن خارج البلاد… يعمل في مؤسسة إعلامية في إحدى دول الخليج … خجلت من أن اسأله إن كان قد تزوج وكوّن أسرةً؟ وحمدت الله أنه حذا حذوي ، فلم يسأل .
تكلمنا طويلاً .. سألني عن حال المدينة وعن الأصدقاء … وعن أبي وأمي … تأسف حين علم أن المرض أقعد أبي وأفقده القدرة على الكلام…
سألني عن عملي … وهنأني حين اخبرته أني حصلت على لقب الاستاذية في تاريخ بلاد ما بين النهرين منذ سنة ونيف
_شاطرة من يومك … هكذا قال .

نقرت على أيقونة صورته… لا زال كما هو .. كما عرفته منذ ثلاثين عام . إنها فقط بعض خيوط الفضة التي غزت شعر رأسه .. الابتسامة ذاتها التي كان يطالعني بها يوم كان ينتظرني على ناصية الشارع حيث مدرستي الثانوية…
اتذكرين… الألقاب المرحة التي كنتي تطلقينها عليه فمرة تسمينه روميو ، و قيس مرة أخرى… وحين كان يعتمر تلك القبعة الغبية في أيام الشتاء كنت تقولين إنها ربما تعود لجده .. و تسمينه حينها شرلوك هولمز..
كان الأمر في البدء مجرد مزحة… فتى يظهر لي أينما ذهبت… نتندر عليه انا وصديقتي ولم أكن أعلم أنه سيشغل كل هذا الحيز من عقلي وذاكرتي يوما..
كنت فتاة جميلة كما قال لي كلُ من رآني . توافد الخاطبون على بابي ما أن تفتحت ازهاري وبانت معالم انوثتي… طرد أبي كل الخاطبات اللواتي طرقن الباب قائلا :
_ما عدنا بنات للزواج.
كان رده هذا يريحني … حتى طرق الحب باب قلبي… وباب بيتنا . فرد عليه ابي بالرد ذاته …
لم يعرف أبي الحب فبعد اتمامه لدراسته الجامعية تزوج ابنة عمه التي أصبحت أمي فيما بعد؛ لان جدَيّ خافا من أن يمتزج الدم الأزرق الذي يجري في عروق كل من والديّ بدماء غريبة أقل عراقة…
يرفض ابي بشدة الأقتران خارج إطار الطائفة والعرق … وللاقتران داخل العرق عنده شروط.. فلديه تصنيف عجيب لكل أبناء المدينة … اذا ينحدر أبناء عرقي من سلالتين يعتقد ابي أن سلالته هي الأسمى من بينهن وهناك العبيد الذي استرقهم العثمنلي ثم نالوا حريتهم بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية … و هناك الخدم و الغجر… وكل هؤلاء محرم الاقتران بهم أياً كانت الظروف أو الحيثيات… لأجل كل هذا لم يكن لدى أبي بنات للزواج…
مرت سنوات الثانوية وذاك الصبي الذي كنت أجهل اسمه واقف في الزاوية ذاتها نهاية الشارع المؤدي إلى مدرستي… ينظر الي من بعيد ويبتسم دون أي محاولة للاقتراب، أو التوسط بأحد طمعا في المزيد من الوصل…
حتى في امتحانات البكالوريا ورغم أني أديت امتحاناتي في مدرسة بعيدة كنت أجده ينتظرني هناك كل صباح …

هكذا تسلل الفتى المجهول إلى قلبي، وبدون أن ادري صرت انظر إلى الزاوية التي اعتاد أن يقف فيها وأتطلع وإلى الطريق الذي يأتي منه.. و تتملكني خيبة لا أعرف كنهها يوم لا أجده واقفاً هناك … ويرقص قلبي بين اضلاعي حين أراه يطل من بعيد.
سهاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى