المكان :محطة قطار الموصل
الزمان :2/تموز /1984
كان القطار يقترب معلناً عن وصوله بنفير عال أسمَع كل من على الضفة الغربية للنهر ، صريف عجلات القطار وهي تلتحم بقضبان السكة الحديد ، ثم تنعتق من سطوتها مرة تلو مرة ، متزامناً مع زئير ماكنة القطار الساخطة .يذكرني برحلتنا على هذه الأرض ، تعتصرنا الأيام فنلتحم معها في صراع البقاء أو الفناء وحين نوقن أنها النهاية ، تعتقنا لبعض الوقت في هدنة خادعة ,لتعيد اطباق قبضتها على أقدارنا من جديد ،وهكذا يوماً بعد يوم .
على رصيف المحطة احتشد المسافرون ، لفتني فنانٌ يحمل عوداً يغمده في جراب قماشي اسود اللون ، وطالب جامعي يمشي حذو زميلة له يحمل عنها كتبها والحقيبة في محاولة منه لاقناعها أنه جدير بحمايتها .
وحدهما الفن والحب لا تسكنهما لعنة الحرب يورقان في حقل البارود ، ويزهران تحت ازيز الرصاص .
على بعد بضعة خطوات ، جنديٌ ببزة عسكرية غير مهندمة تخضبها الدماء من مواضع عدة ، ورأس معصوب بضمادة مُدماة ، و وجهه شاحب ، لابد أنه جريح حرب ، جراح الحرب لا تشفى ، لا أحد يخرج من سوح الوغى سالماً ،الحرب تكْلُم الأرواح لا الأبدان ، وجراح الروح لا يُرجى لها شفاء .
الخارجون من ساحة المعركة لن يعودوا كما كانوا قبل ساعة الصفر ، الحرب تغتال احلامنا وتدمغ جباهنا بسيماء الأسى ، وحين تنتهي الحرب ويتصافح القادة ويخربشوا باقلامهم الانيقة على ذيول معاهدات سلام جديدة ، لن نكون كما نحن ، سنكمل ما كنا قد بدأناه قبل سقوط أول صاروخ كيفما كان ، لكن الروح الحالمة ستكون قد غادرتنا عند انطلاق الشظية الأولى…
انها الثامنة ليلاً حسب توقيت نينوى ، صفّر الغول الحديدي معلناً بداية رحلتي الأولى الى المدينة المدورة .