الشاعرة والناقدة المغربية نجاة الزبابير نشأت في أسرة تقدس العلم، فوالدها عالم ملم بكل العلوم، وقد درست على يديه عندما كانت تلميذة في المرحلة الابتدائية، إذ غرس في أوصالها حب الكتاب، فقد كان في منزلهم مكتبة ضخمة، تذكر أنها لم تتجاوز العاشرة من عمرها عندما كانت تقف مبهورة أمام كل هذه الرفوف، وكانت تجلس بالساعات تقرأ قصصا أسطورية غذت خيالها الفتي، ومع مرور الزمن البيولوجي أصبحت مدمنة على القراءة.
** كيف بدأت علاقتك مع القصيدة ؟
هل تسمح لي يا سيدي أن أسافر بك قليلا إلى عوالم لم أكن أعرف يوما أنني سأحط رحالي بين كثبانها ورمالها، لأبني خيمة أطارد فيها فراشات القصيد؟.
ما أجمل رائحة الذكريات المنبعثة من الذي كان!، فتتدفأ الروح بذلك القبس الجميل الغائر بين ثنايا الوجدان.
هي البدايات تغمز الروح، فتنساب المعاني رقراقة تعيدني إلى أرض وطئتُها لأول مرة كنت فيها كأني أمشي فوق السحاب. هل تعلم يا سيدي معنى ذلك؟
معناه؛ أن حياة من نوع آخر تسللت إليّ فجعلتني أطير بجناحين من حبر كي أنسكب فوق الورق، حرفا وجوديا لا يعرف أسراره غير من عانق هذا الجمال.
عثرتُ ذات حلم بهي أمام باب القصيدة عندما كنت ما أزال صبية تلعب الريح بضفائري المتناثرة في كل الاتجاهات، وأنا في الصفوف الدراسية الأولى. لم أكن أعرف معنى أن أكتب شعرا، ولا كوني سأسير في هذا الدرب المحفوف بالماء والجمر، كان أحد التلاميذ قد كتب قصيدة عن فتاة كانت صديقتي، فنشرت بعض القلق في الأرجاء ـ هذا الطالب الذي أصبح شاعرا ومترجما كبيرا الآن ـ فلما شكت لي ما جاء بين الحروف، كتبتُ ما يسمى شعرا، فدق جرس ميلادي الجديد.
كما كانت أول قصيدة ـ أعترف بها ـ كتبتها وشاركت بها في برنامج إذاعي، لقيت صدى كبيرا وأشاد بها مقدم البرنامج آنذاك عن القضية الفلسطينية، ولقد كانت بحق ضوءا أخضر منحني تأشيرة المرور في شارع الشعر الكبير .
هكذا سحرتني القصيدة ورمتني بنبالها حتى أصبح القلب عبدا لها.
هل رأيت قبل الآن عبودية تجعلك سعيدا؟، حيث تحمل حقائب العمر مسافرا في قطارها، تقف في كل المحطات وأنت تغازل طيفها، وحين تتعب من التسكع في مدنها، تنشر روحك دثارا لها؟.
كانت هذه هي النافذة الوحيدة التي كنت أستنشق من خلالها هواء الحرية، فكنت أستلقي فوق أرضها مثل طفلة صغيرة تملأ كفيها بالسكر والياسمين.
** بمن تأثرت من الأدباء وهل لقيت التشجيع ؟
نشأت في أسرة تقدس العلم، فوالدي عالم ملم بكل العلوم، وقد درست على يديه عندما كنت تلميذة في مرحلة الابتدائية، إذ غرس في أوصالي حب الكتاب، فقد كانت في منزلنا مكتبة ضخمة، أذكر أني لم أتجاوز العاشرة من عمري عندما كنت أقف مبهورة أمام كل هذه الرفوف، وكنت أجلس بالساعات أقرأ قصصا أسطورية غذت خيالي الفتي، ومع مرور الزمن البيولوجي أصبحت مدمنة على القراءة.
كانت كل الكتب تشكل وجودي الإبداعي، إذ تدفق نهرها وهجا مرورا بماجدولين للمنفلوطي التي أبكتني ليالي إلى كتاب النبي لجبران، مرورا بالبؤساء لفيكتور هوجو. وكأن الألم يضع مداد لبناته في دمي كي أقتفي أثر الغاوين الذين يقبضون قدم الريح.
لتكون كتابات غادة السمان وألفريد دي موسيه وآخرين نقطة عبور كي أغوص بعد ذلك في كل المجالات المعرفية، وإن كان السرد يصطادني كلما مشيت وحيدة في غابات المعنى.
وقد حظيت كتاباتي بالاهتمام في الوسط الثقافي منذ ظهوري في اللقاءات الأدبية ومشاركاتي على صفحات الجرائد والمجلات، واستمر هذا الاحتفاء حتى استطعت أن أنحت اسمي بإزميل الاختلاف في الوطن العربي.
** ماذا تقولين لنا عن نجاة الزباير في لحظاتها الإبداعية الأولى حين يسكنها وجع الكتابة ؟
الكتابة ردمٌ لهذا الخواء المريع الذي يجتاح أرواحنا، وهي خيط الجمال الذي يرتِق عالم القبح، فحين تتساقط أوراق الشتاء، تقف أمام بابي سيدة متلفعة بأثواب نفسي، تلح بطرقاتها كي أفتح لها نافذة روحي لتنسج من شجني حروفا تقطرُ لوعة.
هكذا تعانق صحوي عندما يلفني اليباب و يمزقني عواء الشوارع، فيغدو هذا الحب العصي على البوح جنونا يبحر بين المفردات كي أصنع زورقا من ورق، لتبدأ الطيور المهاجرة رحلتها في وريد أزمنتي.
وكلما راوغتُ صدودها، رفعتْ أنخاب موسيقاها بين أنامل حيرتي، كي أتناثر زهرة جلنار.
** ما هي أبرز الموضوعات التي تتناولينها في كتابة نصوصك الشعرية؟
دعني أخبرك يا سيدي، بأن الوجع الإنساني هو ذلك النحيب الخفي الذي يقدُّ قميصها من قُبُل، فترى أبطال نصوصي يتحركون بين قلاع المجاز بخوذات الحرب، ولكثرة صوت القنابل في شعري ، كثيرا ما سُئلت عن هذا الدم الذي لوث حروفي.
فكلما اتكأتُ على جدار الوطن الكبير أراه ينزف ، لتحاصر زوابع ورياح آهاتي، لكن يد القارئ التي تمتد من بين السطور تنقذني مني، كي تستريح أوجاعي في أفقه البعيد.
كما تكتظ قصائدي برسائل لكل العشاق، إذ كثيرا ما تخيلت ملامح قارئ ما، فأقول.. تُراه ينتظر مواساتي؟، فأجري بين كل دروب الهوى لعله يجد بعضا من روحه في كتاباتي.
** ما رأيك بمستوى الحركة الأدبية الراهنة في المغرب ؟
صعب أن نتحدث عن الحركة الأدبية في سطور عجلى تلتقط أنفاسها بين الفواصل. لكن اسمح لي يا سيدي أن أخبرك، بأن المشهد الثقافي بالمغرب قد عرف تحولا عميقا نظرا لتنوع وتميز إنتاجاته، بفضل الباحثين والشعراء والنقاد، دون أن ننسى الروائيين والمفكرين وكل العارفين بأسرار اللغة التي تعتبر « مسكن الوجود» كما قال هيدجر.
ولعل أهم ما يميز الحركة الثقافية الراهنة هو انسلاخها عن الاستلاب الفكري، الذي أعني به « الانسلاخ عن الذات والهوية الثقافية الأصلية والانغماس في ثقافة الآخر؛ مما يعني التبعية لهذا الآخر كثقافة وكحضارة.» ) (1
فأهم الجوائز العربية في كل المجالات يحظى بها مثقفون مغاربة كان لهم السبق في رسم معالم مغرب ثقافي جديد، ساهم بشكل كبير في بناء الإنسان، دون فقد الصلة بالتراث رغم التأثر بالنموذج الغربي. هذا الانفتاح الذي أبرز وجه الحضارة المغربية من خلال تناول قضايا ونظريات تنتصر للجمال الكتابي.
** في شعرك نلمس جمال ورقي الحرف ، ونضج المرأة حينا، وكونية الإنسان حينا آخر…من هي نجاة الزباير من بين كل هؤلاء؟
جميل أن نجمع يا سيدي أمواج البحر في كف واحدة، تلك هي (أنا ) إذن؛ المتعددة في كف الاختلاف.
لكن هل تسمح لي بأن أقول بأني سيدة الوهم؟، أتوارى خلف ستائره كي أرى ما لا يُرى، وأنني تلك المتدثرة بأوراق القصيدة الإنسانية التي تطل على العالم، فمتى أشرقت من شرفات دمي أراني أركض في ساحاتها، أجمع من رذاذها عطرا لحضوري، وكلما عانقتُ جسدها نسيتُني وكأني أولد ولادة ثانية.
إنه جنون يستوطن دواة العمر كي يكتبني حبرها فوق بياض عوالمها أغنية لا أرقص إلا على إيقاعها من خلال رؤية عميقة للذات وعلاقتها مع الآخر.
كل النساء أنا
فهل عرفت هذا يا هذياني ؟
يا وطنا جردني مني
وعانق طفولتي
بالقرنفل والياسمين.
** قصائدك غنية وجدانيا ولغويا تفصح عن أحاسيسك بعمق وشفافية رغم حضور مواقفك الفكرية بقوة في كتاباتك…كيف تمكنت من تحقيق هذه المعادلة الصعبة؟
لأول مرة أعرف بأن هناك معادلة صعبة وُفِّقت في الإمساك بأطرافها، إنني أكتب فقط حين يستفز يراعي موضوع ما، فأراني أحتطب من الذات استعارات تحاول الإمساك بالمحال، فتتدفق الحروف سلسلة من نهر وجداني كي تعانق القارىء بإحساس صادق .
** مشاريعك المستقبلية على الصعيد الشخصي والادبي؟
صدر لي مؤخرا كتاب نقدي عن تجربة الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار يحمل عنوان «قناص ببندقية من ورق»، كما لدي مشاريع شعرية وروائية سترى النور قريبا.