حين تحدث أسطورة الفن المصري عادل إمام عن «التجربة الدنماركية» في فيلمه الشهير، سلّط الضوء على الفوارق الثقافية بأسلوب ساخر
وكوميدي. لكن الواقع أحيانًا يتجاوز الخيال. ففي رحلتي إلى الصين، وجدت نفسي أعيش تجربة حقيقية تجسّد روح الابتكار والتقدّم. كان ت
الرحلة بين مدينتي نانجينغ وشنغهاي بمثابة استكشاف لأعماق التكنولوجيا الحديثة والابتكارات التي تُغيّر وجه العالم. ولم أتمالك نفسي من
الابتسام وأنا أتذكّر مغامرات محمد هنيدي في فيلمه «فول الصين العظيم»، الذي قدّم مشاهد وقصصًا كوميدية عن الصين، لأدرك أن الواق ع
يفوق التوقعات بطرق لا يمكن تخيّلها .
بدأت الرحلة من مدينة نانجينغ الساحرة، التي تمزج بين جمال الطبيعة والتطور التكنولوجي. نانجينغ، بجمال حدائقها ومنتزهاتها الطبيعي،
توفر بيئة ملهمة تمزج بين الهدوء والجمال والابتكار. في هذه المدينة، يندمج التراث الثقافي الغني بشكل فريد مع التنمية التكنولوج ية
الحديثة .
ولم تكن نانجينغ مجرد مدينة جميلة، بل تعد أيضًا مركزًا تعليميًا وبحثيًا رئيسيًا في الصين، حيث تحتضن العديد من الجامعات العريقة، مثل
جامعة نانجينغ التي تُعدّ من أقدم وأفضل الجامعات في البلاد. في هذه الجامعات، تجتمع العقول النابغة لتطوير مشاريع بحثية تسهم في تقدّم
العلوم والتكنولوجيا .
خلال زيارتي لإحدى الجامعات في نانجينغ، لاحظت تطورًا كبيرًا في مجالات الأرصاد الجوية وعلوم الفضاء. يستخدم العلماء أحدث
التقنيات لدراسة أنماط الطقس وتحليل بيانات الغلاف الجوي لتحسين توقعات المناخ وتطوير أنظمة الإنذار المبكر للكوارث الطبيعية. هذ ه
الجهود لا تسهم فقط في حماية الأرواح والممتلكات، بل تساعد أيضًا في فهم أعمق لتغيرات المناخ وتأثيراتها على كوكب الأرض.
وفي مجال علوم الفضاء، تُعد نانجينغ مركزًا رائدًا للأبحاث الفضائية وتطبيقات الملاحة. زرت مركز أبحاث الفضاء بالمدينة، حيث يعمل
العلماء على تطوير تقنيات جديدة لتحسين الملاحة الفضائية وتطبيقاتها في مجالات مختلفة مثل الاتصالات، والاستشعار عن بُعد، ومراقب ة
الأرض. ولا تُعد هذه الابتكارات مجرد إنجازات علمية، بل هي خطوات نحو مستقبل أفضل وأكثر استدامة .
تُستخدم تطبيقات الملاحة الفضائية في نانجينغ في مجالات حيوية مثل الزراعة، حيث تُستخدم تقنيات الاستشعار عن بُعد لمراقبة المحاص يل
وتحسين الإنتاج الزراعي، ما يُسهم في تعزيز الأمن الغذائي وتحقيق التنمية المستدامة .
وبذلك، تُمثل نانجينغ نموذجًا مثاليًا للدمج بين الابتكار والتقاليد، فهي ليست فقط مدينة تاريخية جميلة، بل أيضًا رمزٌ لتطور الص ين المستمر
وتحولها إلى قوة تكنولوجية رائدة .
بعد استكشاف نانجينغ، كانت الوجهة التالية هي مدينة شنغهاي، القلب الاقتصادي للصين ومركز الابتكار التكنولوجي. وما شاهدته هناك
كان كافيًا لأدرك مدى قوة وتأثير هذه المدينة على الاقتصاد العالمي .
شنغهاي ليست مجرد مدينة تجارية ضخمة، بل هي مختبر حي للتكنولوجيا المتقدمة. بدأت الجولة بزيارة بعض أكبر شركات التكنولوجيا
في المدينة، حيث شاهدنا كيف تُطوّر تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية .
وفي إحدى شركات الملاحة الرائدة، رأيت كيف يُستخدم نظام بيدو للملاحة، وهو نظام الملاحة بالأقمار الصناعية المتطور الخاص بالصين.
ولا يقتصر استخدام هذا النظام على تحسين أنظمة الملاحة للمركبات والطائرات، بل يمتد ليشمل مجالات مثل الزراعة الذكية، وتخطيط
المدن، وإدارة الكوارث. وتُساعد تقنيات بيدو على تقديم حلول مبتكرة لزيادة الكفاءة الزراعية من خلال استخدام بيانات دقيقة لمراقبة
المحاصيل وتحسين الري وإدارة الموارد .
وتُعد شنغهاي، بجمالها الطبيعي والمعماري، من أكثر المدن إبهارًا في العالم. وتُجسّد ناطحات السحاب التي تزين أفق المدينة، مثل ب رج
شنغهاي وبرج اللؤلؤة الشرقية، طموحًا هائلًا وقدرةً عالية على الابتكار. وتجمع المدينة بين القديم والحديث، حيث تتجاور الأزقة ال تقليدية
مع الأبراج الحديثة، لتشكّل مزيجًا فريدًا من الثقافات والتقاليد .
وتوصف شنغهاي بأنها «باريس الشرق» و»مدينة المستقبل»، لما تتمتع به من جمال آسر وقوة اقتصادية وتكنولوجية. فهي مركز عالمي
للتمويل والأعمال، تستضيف أكبر الشركات العالمية والمؤتمرات الدولية. ويُشجع المناخ الديناميكي في شنغهاي على الابتكار، ويجذب
المواهب من أنحاء العالم، مما يجعلها مركزًا محوريًا للتطور التكنولوجي والاقتصادي .
ومن أبرز التجارب التي مررت بها هناك، مشاهدة الابتكار في مجال الطاقة المتجددة. رأيت كيف تُستخدم التكنولوجيا لتطوير حلول طاقة
مستدامة، من الألواح الشمسية المتطورة إلى تقنيات تخزين الطاقة. وتسهم هذه الابتكارات في تقليل الانبعاثات الكربونية وتعزيز أمن الطاقة
للصين والعالم .
في نهاية الزيارة، أدركت أن شنغهاي ليست فقط محرّكًا للاقتصاد الصيني، بل أيضًا نموذجًا عالميًا للابتكار والتقدّم التكنولوجي. فهي مدينة
تمزج بين التقاليد والحداثة، وتقدم رؤية ملهمة لمستقبل الاقتصاد العالمي في عصر التحول الرقمي .
وعند الحديث عن العلاقة بين وطننا العربي والصين، نجد العديد من الفرص للتعلّم والاستفادة من التجربة الصينية في مجال الابتكار
والتكنولوجيا. كانت الرحلة بين نانجينغ وشنغهاي مليئة بالدروس التي يمكن أن تعود بفائدة عظيمة على اوطاننا العربية الحبيبة في سعيها
نحو مستقبل تكنولوجي مزدهر .
لقد بدأنا بالفعل في التحرك نحو التقدّم التكنولوجي في العصر الحالي، وتُبذل جهود كبيرة لتعزيز الابتكار ودعم التعليم والبحث العلمي.
ولكن علينا تسريع هذه الجهود، والاستفادة الدقيقة من الدروس المستفادة من التجربة الصينية .
فقد استثمرت الصين بشكل كبير في بناء بنية تحتية تعليمية قوية، مما أدى إلى إنتاج جيل جديد من العلماء والمهندسين الذين يقودون عجلة
التطور التكنولوجي. ويمكن للجامعات المصرية الاستفادة من هذه التجربة من خلال تعزيز برامج البحث العلمي وتطوير شراكات مع
المؤسسات التعليمية الصينية .
ومن أهم الدروس التي يمكن أن تتعلمها، هو كيفية تحويل الأبحاث العلمية إلى تطبيقات عملية ومنتجات تجارية ملموسة. ففي الصين، لا
تقتصر الجهود على البحث والتطوير داخل المعامل، بل تمتد لتحويل نتائج الأبحاث إلى حلول عملية ومنتجات تجارية تُحسّن الحياة اليوم ية
وتُعزز الاقتصاد .
كما يمكن أن تستفيد من كيفية استخدام الصين للتكنولوجيا لتحسين حياة المواطنين. فتطبيقات المدن الذكية والبنية التحتية التكنولوج ية المتقدمة
في المدن الصينية تقدم نماذج يمكن تبنّيها في المدن المصرية لتحسين الخدمات العامة وتسهيل الحياة اليومية .
وفي مجال الطاقة المتجددة، تُعد التجربة الصينية نموذجًا يُحتذى به في تطوير تقنيات الطاقة المستدامة. ونحن، بما تملكه من موارد طبيعية
هائلة من الطاقة الشمسية والرياح، يمكن أن تستفيد من الخبرات الصينية في تطوير مشاريع الطاقة المتجددة وتقنيات تخزين الطاقة، مما
يسهم في تعزيز أمن الطاقة وتقليل الاعتماد على المصادر التقليدية .
وفي مختلف القطاعات، تُعد الصين نموذجًا يُحتذى في تطبيق التكنولوجيا لتحسين الحياة اليومية وتعزيز الاقتصاد. ففي قطاع الصحة،
تستخدم المستشفيات الرائدة في شنغهاي روبوتات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لإجراء العمليات الجراحية بدقة عالية وتحليل البيانات الط بية
فورًا، بالإضافة إلى تقديم الاستشارات الطبية عن بُعد، مما يجعل الرعاية الصحية أكثر توفرًا في المناطق النائية. وفي الزراعة، تُستخدم
تقنيات الاستشعار عن بُعد لمراقبة المحاصيل وتحسين الإنتاجية، مما يُعزز الأمن الغذائي. وفي إدارة المياه، تُستخدم أنظمة ذكية لمراقبة
جودة المياه وإدارة الموارد بكفاءة. وفي الأمن، تُستخدم تقنيات المدن الذكية لضمان سلامة المواطنين وإدارة الطوارئ بفعالية. وفي ال تعليم،
تستخدم الجامعات تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي لتقديم تجارب تعليمية تفاعلية وفعّالة. وفي الاتصالات، تُستخدم تقنية الجيل
الخامس (5G) لتوفير اتصالات فائقة السرعة ودعم التطبيقات الذكية. وفي النقل، تُدار حركة المرور بأنظمة ذكية تُحسن كفاءة وسائل النقل
العام. وتسهم هذه الابتكارات التكنولوجية في خلق بيئة أكثر أمانًا واستدامة وراحة للمواطنين .
ومن أهم الدروس التي يمكن أن تتعلمها من الصين هو مفهوم «الدائرة المغلقة» في الابتكار والتطوير. ففي الصين، لا يقتصر التركيز على
البحث والتطوير فقط، بل يشمل أيضًا المتابعة المستمرة وتقييم الأداء لتحسين المنتجات والخدمات بشكل دائم. ويتضمن هذا النهج جمع
البيانات باستمرار، وتحليلها، واستخدام النتائج لتحسين العمليات والمنتجات. وتضمن هذه الدورة المغلقة التحسين المستمر والتطور، مما
يعزز تنافسية الشركات والمشاريع .
كذلك، يلعب العنصر البشري في الصين دورًا محوريًا في هذا التطور، بفضل ثقافة العمل الجاد والانضباط والالتزام. فالمواطن الصيني
يتمتع بروح عالية من المسؤولية والانضباط، ويركز باستمرار على تحسين الكفاءة والعمل بجد لتحقيق أهدافه وأهداف فريقه. وتعزز هذه
الروح الجماعية الإنتاجية والابتكار .
كما يتجلى الجانب النفسي الإيجابي للعامل الصيني في احترام حقوق العمل وروح الفريق. ففي بيئة العمل، يُشجّع الموظفون على التعاون
وتبادل المعرفة بشكل منفتح، مما يخلق مناخًا من الثقة المتبادلة والأمان الوظيفي. ويساعد هذا المناخ الإيجابي على تعزيز الإبداع وتحفيز
الموظفين على تقديم أفضل ما لديهم .
ويمكن أن يُشكّل التعاون مع الجانب الصي ني في مجالات التكنولوجيا والابتكار محركًا قويًا للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة. ومن خلال
تبادل الخبرات والتكنولوجيا، يمكن تحقيق فوائد متبادلة ودفع عجلة التطور نحو مستقبل أكثر إشراقًا .
وفي الختام، كانت رحلتي إلى الصين تجربة غنية مليئة بالمعرفة والإلهام. من نانجينغ إلى شنغهاي، رأيت كيف يمكن للتكنولوجيا أن تُغ يّر
العالم وتُخلق فرصًا جديدة للنمو والتقدّم. ويمكن أن تكون هذه الدروس نقطة انطلاق لنا في رحل تنا نحو مستقبل تكنولوجي مزدهر. وبينما
أتأمّل هذه التجربة، لا يسعني إلا أن أسترجع فيلم عادل إمام «التجربة الدنماركية» الذي أبرز الفوارق الثقافية بأسلوب كوميدي، وفيلم محمد
هنيدي «فول الصين العظيم» الذي قدّم نظرة فكاهية عن الصين. ولكن ما شهدته هنا يفوق كل تلك التصورات، مجسدًا واقعًا مليئًا بالابتكار
والتقدّم يتجاوز الخيال