أحد الشتاءات الباردة جدا، إحدى السنوات التي ترفض الذاكرة أن تصرح بها، وفي أحد الأمكنة التي أتذكرها جيدا، هل كان علينا أن نسلك هذا الدرب؟ أنا لا أسألك بل أسأل نفسي لأنك لا تقدم إجابات أبدا، هذا أنت… وأحيانا أشعر أني أمقتك بشدة، لا تقلق لا يمكن لي أن أفعل هذا حقا، أي لا يمكنني أن أمقتك فعلا، إنه شعور لحظيٌّ فقط، سرعان ما يتحول إلى مقت لذاتي لأني لا أجرؤ على مقتك ولا حتى على التفكير في هذا، يقولون إن شدة الوله قد تنكص لتكون حقدا، إنه ليس حقدا بالمفهوم المتعارف عليه ولكنه انقلاب يحصل إذا بلغ المرء حدوده القصوى، يعتريه فيهدم أركانه ويبث فيه هذا الشعور، وعندما تهدأ العاصفة سرعان ما تعود المياه إلى مجاريها، هذا ما أشعر به تجاهك، يعززه ضيق تلك اللحظات التي لا تتسع لنا فأكتشف أن الانقباض الذي يقبض عليَّ وبرودتك الناصعة كالموت هي دافع آخر لذلك الوله الشديد المنقلب على عقبيه الذي اصطلحتُ عليه مقتا.
لا تَلُمْنِي، أحيانا أكون متسرعة فطبعي ناريٌّ ملتهب، وأنا لا أملك سعة صدرك وهدوئك العميق، حاولت تعلم هذا منك لكنني عجزت عنه، وعندما أتأملك جامدا كمجسم خال من التعابير والعواطف، كدمية، كآلة، كصنم… كثيرا ما أشك في أمرك، لا تهزك نائبات الأمور، ولا تتفاعل مع أي شيء، وتعلوك التعابير ذاتها في كل موقف… ويقتلني ردك المقتضب البسيط ويستفزني إذا ما أتيت لأخبرك عن مصيبة أو حدث جلل مررت به، هل أكلم بشريا حتى؟!
تزول شكوكي عندما تبادلني ابتسامة دافئة تتسلل من كهوفك الجليدية لتزيد في اضطرام ناري، من أين تأتي بهذه الابتسامة يا وجه الحجر اليابس؟ تقابلني بعبوس يتجعد فيه وجهك كما أشتهي فأضحك منتشية لأنني أخرجتك من طور الجمود، ثم تعود لتحدثني بأنفاسك الجليدية الباردة وأعود لألتهب غيظا.
مرت السنوات وانطفأتُ، أدركت بعد طول المدة أن جليدك هو وقود ناري، وأنك الوحيد القادر على تحريك عواطفي وإثارتها، خلت أن ناري تحتاج نارا لتقوى وترتفع، ونسيت ما كنت تقوله دوما «الحياة فوضى نظامية تقوم على المفارقات…»
والآن أنا هنا، وها هو كانون الثاني، وذاك ثلجه الناصع الذي يذكرني بك، أنتظرك في مكاننا المعتاد، أجدك لكنني لا أقابلك، أراك تخطو بعيدا بمعطفك، وقفازاتك المميزة، وشالك الصوفي الأثير، ترفع يديك مبايعا لي دون أن تلتفت، لا أعلم إن كنت رأيتني أم إنك استشعرت وجودي، تضطرم ناري وأوشك أن أصرخ بك، فتَكْتُمُ صرختي التفاتتك البطيئة وابتسامتك الدافئة.
نتف من ثلج كانون الأول تلامس وجهي وتذوب مع همسي، بردك وحري، أنت ودموعي، ذات شتاء وذات مكان أَبَيْتُ أن أبتعد عنه وأَبَيْتُ أن أنساه…