أكبر خيانة قد يقترفها الإنسان ليست خيانة الزوج أو خيانة الحبيب، وما هي بخيانة الصديق أو الخليل، كما أنها ليست هي ما يتشدق به بعض العميقين وفلاسفة المواقع عندما ينتكسون، فيطلقون العنان لأحكام يتمحور جلها حول: «إن الخيانة الحقيقية خيانة جيبك أما البقية فزيادة…»، «أكبر خيانة هي خيانة الصحة أما غيرها فخضرة فوق عشاء…»، كل هذا هراء وكلام يُصرف على فقراء العقول، لذلك اقترب ودعني أخبرك بالخيانة الحقيقية… إن الخيانة الحقيقية التي يجب على كل رجل عاقل أن يتحاشاها، بل وأن لا يفكر فيها أساسا هي خيانة الحلاق… أجل الحلاق…وأنا لك ناصح أمين لأن الحلاق هو الشخص الوحيد الذي يستطيع كشف خيانتك من المرة الأولى… من اللمحة الأولى، وفي أحقر جزء من الثانية إذا ما أقبلت عليه من باب محله… إنه لا يحتاج تحريات، ونصب فخاخ، أو فتح حسابات، وفبركة رسالات، ولا يحتاج وقتا لليقين والتأكد ونفي الشبهات…إنه ليس حبيبتك، وهو ليس زوجتك ليفعل هذا، وهو ليس صديقك أو أحد أقربائك أيضا… إنه الحلاق… صاحب القدرات الخارقة والمهارات الاستثنائية… يمكنه كشفك بمجرد النظر إليك، حتى إذا ما دخلت وجلست على الكرسي غافلا، متناسيا ذنبك الشنيع، وخيانتك النكراء له مع حلاق آخر، ورحت تعطيه تعليمات عن شكل حلاقتك، وأنت تراه من المرآة يقترب منك ببطء، بطريقة مشبوهة ويمسك رأسك ويداعب شعرك بنوع من الخشونة والشفرة تلمع في يده…
وإذ تهزك قشعريرة مقيتة، وتستولي عليك حيرة شديدة من سحبة الهواء العميقة التي قام بها قربك، ثم من تلك التنهيدة التي ندت عنه كفرس نهر جامح مقبل لفرض هيمنة مصيري على بحيرة في إحدى غابات إفريقيا… فدعني أخبرك بأن ذلك أنفه يستنشق رائحة الخيانة… رائحة الحلاق الآخر!!… الذي حلقت عنده الشهر الماضي… ذلك أنفه المصمم لشم جزيئات الخيانة، واكتشاف الرجل الذي حلقت عنده… متى، وأين، وكيف… تتجلى أمامه كل التفاصيل، فيراها أمامه بمجرد سحبة هواء بسيطة، بل ويسمع حتى ما دار بينكما من أحاديث –على أساس أن الحلاقين مخلوقات مصنوعة من طينة الكلام… وخلقوا من أجل الكلام وينافسهم في هذا أصحاب سيارات الأجرة-، ودعني أنبهك إلى أن لكل حلاق رائحة مميزة خاصة به، تشبه البصمة الوراثية التي تعلق بك إذا ما حلقت عنده، وتكون كالخاتم والوسم المميز لك، وإذا ما استبدلت حلاقك مرة فإن رائحة الحلاق الآخر –غير حلاقك- الذي تأتيه فيبتسم بمكر عندما تدخل إليه، لأنه يميز بأنك لست من زبائنه وأنك تخون حلاقك معه، فإن رائحته ستعلق بك، ومهما طال الزمان، أو تباعدت الأيام، فإن حلاقك كاشفك لا محالة، فتلك الرائحة لن تفارقك وستلتصق بك أبد الدهر، ولن يزيلها عنك إلا مغفرة حلاقك بحجة قوية منك، ووعد قاطع بعدم تغييره مرة أخرى، مع ضمانات عديدة طبعا… وهنا فقط سيغسل غفرانه الرائحة عنك لكنك ستبقى في القائمة السوداء فترة لا بأس بها … وسيشك بك إن أطلت الغياب، ولن تتخلص من آثار الأمر على أمد بعيد حتى تثبت حسن نواياك، وتحصل على شهادة حسن السيرة والسلوك منه مجددا…
ودعني أرجع بك إلى تلك اللحظة التي كنت فيها مستغربا من استنشاقه للهواء، وكأنه يشفط عفريتا بمنخريه… وذرني أسرد لك ما سيحصل بعدها وقد ضاق صدره بصنيعك القبيح البائس الذي فعلته، وإثمك الشنيع الكريه الذي اقترفته، وأنت جاهل بهشاشة الحلاقين ورهافة مشاعرهم الرقيقة… سيقترب منك ببطء بعد أن زفر كل الهواء بعنف، محاولا إخراج تلك الرائحة التي غزت جوفه فأضرمت النار فيه، وجرحت كبرياءه، وطعنت رجولته… يحاول أن يكون طبيعيا وأن يظهر متماسكا، لكن جسده يخونه فيرتعش وترمش عينه اليسرى بطريقة غير طبيعية… تلاحظ أنه ليس على ما يرام فتتودد إليه وتسأله «هل أنت بخير؟»
-لا تشغل بالك بي…
إجابة باردة مشبوهة تجعلك تراجع نفسك: «لم يعتد أن يكلمني هكذا، هل سمع عني شيئا سيئا؟ ربما كذب أحدهم عليه وأخبره أني تكلمت فيه؟ آآآه أعتقد أنه ذلك النذل الذي ضحكت من تسريحة شعره التي تشبه آباط شيطان منتوفة بطريقة جزئية، ربما أخبره أني ضحكت على طريقته في الحلاقة وطعنت في صنعته المحكمة، لكنني لم أَعِب الحلاق، ولم أشكك في قدرته، بل عِبْتُ الحليق ونوع حلاقته الغريبة؟!»
تضيع في أفكارك ويعم سكون مقلق، ثم ينهمك في عمله فيمسك الشفرة ويقترب من رأسك عندها تعاوده رائحة الخيانة مجددا فلا يطيقها وتتألم أعماقه وتنتفض جوارحه، ويزمجر كبرياؤه ويحاول أن يتماسك ويفكر في أن يغفر ويصمت ويتجاوز، لكنه يحترق ويعجز عن كبح ما يختلج داخله، فيصيح قربك ببحة تخنقها العبرات وقد احمرت عيونه كثور هائج.. تفزع من شكله وهو ينحني على أذنك كمختل نفسي يردد بقهر:»لماذا فعلت هذا؟! لمااااذا؟ لمااااعععذااا؟»، وتتفخم حروف المد كتجشؤِ صائم بعد إفطار دسم: «لمااااعذااا؟ لماااعععذا»، أو كبعبعة كبش مخنوق يوشك أن يُذبح… وتصاحب هذه الصيحة شهقات متقطعة تثير الرعب في أوصالك…
-بسم الله… أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر… ما به؟ ما الذي حل به؟
تردد هذا في صدرك ويجمدك الخوف عندما ينعكس الضوء الساطع على حدّ الشفرة التي في يديه، فتقرر أن تكون حكيما وتحسب حساباتك من جديد… «هناك خلل ما»، ترمي بعيونك للمرآة فتجده يتأمل نظرتك المرعوبة وفجأة ينقلب مائة وثمانين درجة، فيبتسم ويلطف الجو ويخبرك نكتة فتضحك معه مسايرة له، لأن النكتة غير مضحكة بالمرة… وتستغرب من هذه التحولات التي يمر بها هذا المخلوق كطقس في أحد يوم من أيام الجزائر الذي لا تعرف ما إن كانت صيفا أم شتاءً، ربيعا، أم خريفا، ولا تجد لتقلباته تفسيرا، يُخْرِجُك من تأملاتك وتكهناتك بخصوصه عندما يهمس لك بخبث… بصوت ثعبان أرقط تحس فحيحه يدغدغ قنوات أذنك: «إذن كنت مسافرا الشهر الفارط…»
يدق قلبك بشدة وتشعر بملوحة حادة في فمك، وكأنك تستطعم سلكا نحاسيا مؤكسدا بمذاق قوي، وهنا تفهم الأمر… «كيف علم؟ هل رآني وأنا أدخل للحلاق الآخر؟ لا يعقل هذا الحلاق الآخر في أقاصي المدينة في منطقة بعيدة عنه؟ هل وشى بي أحدهم؟»، تتلكأ في الرد وتعجز عن الإجابة، وتختفي عيونك في محجريها عاجزة عن النظر إلى انعكاسه في المرآة الذي تضخم كمارد يأكله الغيظ… تلمع الشفرة بيده عندما يحركها نحوك… يجب عليك أن تدرس تعبيرات وجهك بدقة، وأن تتحكم في مشاعرك فأي زلل قد ينتهي بكارثة… تحاول أن تهدأ، وأن تنظم تنفسك، ثم تجيب إجابة بلكنة ثقة مصطنعة تسعى من خلالها لإبعاد الشبهات عنك…»لقد غادرت المدينة بضعة أيام لذلك لم أزرك…»، لا تسمع رده فترمي عيونك صوب المرآة لتتأكد من حالته… تراقبه بحذر فتجده شاردا… لقد بدأ الصراع يحتدم داخله… وراح قِدْرُ الهرمونات عنده يتقالب ويغلي… تشعر وكأنه امرأة في حالة هستيرية غير مستقرة… «ما الذي فعلته بنفسي يا رباه… ربي يسلكها على خير وخلاص…»، تتمتم تعاوذيك ورقاك علها تنفع: «أعوذ بالله من شر ما خلق… وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون… اللهم اعميه عني وأبعد شره عني…»، تحس فجأة بشدة قوية لشعرك، مسكة حاقدة، إنه يقترب منك مجددا وهو يصرخ بك كثعبان عطشان: «لمحااذا، لمحححااااذا خنتني؟ ألم أحلق لك جيدا؟ ألم أعتنِ بك؟ هل قصرت معك في شيء؟ هل الحلاق الآخر أفضل مني؟»
يبرد جسدك وينخفض ضغط دمك، فينزل عرقك كلؤلؤ منثور من جبينك… ويغلي رأسك فجأة، ويحترق دمك، وتنتقل من درجة الصفر إلى المائة في جزء من الثانية، عندما تتطلع عليه فتجد أنه يُقَرِّبُ الشفرة من صدغك نازلا بها إلى رقبتك ونحرك، ورأسك تثبته يده الأخرى على مسند الكرسي بقوة… ونظراته الحادة تخترقك جمجمتك البائسة، ونفسك التي سولت لك بأن تحلق ذلك اليوم المشؤوم عند غيره على سبيل التغيير، تردد متقطعة: «والله لن أحلق عند أحد غيرك بعد الآن… والله لن أفعل… هل تقرأ أفكاري؟! هل تفعل؟!! أنظر والله لن أحلق عند غيرك بعد الآن…»، تتمتم بهذا داخلك… عندما تستشعر بأنه مطلع على سرائرك… ثم تحس به يُقَلِّبُ رأسك برفق وكأنه يحرك جرة فخار راشية (هشة)، أو تحفة فنية نفيسة، أو صندوق مجوهرات غالية… فيبتسم بغرابة وتعجز عن الفهم… «هل قرأ أفكاري يا ترى؟! هل فعل حقا؟!! وقرر أن يصفح عني؟!!! أم إنها إحدى تقلباته العديدة التي تعتريه اليوم؟»
تستمر جلسة الحلاقة وقلبك بين توقف وتسارع، وجسدك بين احتراق وبرود، ونَفَسُكَ بين امتداد وانقطاع… حتى تنتهي الرتوشات الأخيرة، ينفض عنك الشعر بالمنفضة ويزيل المئزر… يتفقدك في المرآة… يجري بعض التعديلات الطفيفة قبل أن تقوم من مكانك… قصات بالمقص، حركات سريعة بالشفرة، بخات بمرش الماء، ومسحات بمنفضة الشعر مجددا… «هوووب» يزيل عنك المئزر وينفضه بعيدا وهو يلوح بيده كماتدور أنيق، ثم يشير إلى قَصَّةِ شعرك بإعجاب قائلا «هك مليحة؟»
-وفيها الريحة…
تقولها وأنت مبتسم وقلبك يصرخ: «أطلق سراحي… أطلقني…»، يبتسم لك ابتسامة ذات معنى في المرآة ويقول لك: «بصحتك» فتجيبه متملقا: «الله يسلمك»، وتضع في يده النقود وترتدي سترتك وتهم بالمغادرة، فيوقفك ليعيد إليك الفكة…»احتفظ بالباقي لا بأس…»، تقول له هذا وفي قلبك صوت يردد: «الحمد لله سلكنا وتمت على خير… تجي في الصرف بوغبار»… يبتسم بعمق وينظر إليك بتركيز تام وهو يودعك ويقول:»زيد طل علينا…»
جعلني ما نطل على غيرك… سأطل عليك كلما تمردت شعرة وقررت الخروج على سلطان الرأس… ستكون أنت حجاجها وتقطع دابرها… أخذت درسي… لن أغيرك بأموال قارون… تنظر إليه مبتسما: «إن شاء الله… أي باينة هذيك…»، تقولها مشحونة بمعانِ من فقه العبرة وفهم الحكمة… فيبتسم مستلذا بنصر غريب… لقد اختفت رائحة الخيانة منك، وتبخرت رائحة الحلاق الآخر وبادت… وغزتك رائحته هو من جديد… يجيبك بأنغام لكنة «صادكا» ويقول لك «مريقلة»… فتطلق لقدميك العنان عائدا إلى المنزل وأنت تشعر بخفة عجيبة… كأنك ملاك يسبح في الفردوس… خفة النجاة من الموت… إياك أن تفعلها… احذر… اسأل مجربا ولا تسأل طبيبا… الحلاق خط أحمر… فلا تخن حلاقك…