مقالات الكتاب

من قصص الحرب

بقلــــم: د. رجاء صالح الجبوري

واحد اثنان ثلاثة أربعة
كل شيء في بيتنا يبدأ بواحد لينتهِ بأربع .
مثل دو ري مي فا.
أربع حقائب مدرسية وأربعة أزواج من الاحذية وأربعة أسرة وأربعة أزواج من أشرطة حمراء لماعة تزين اربع أزواج من الظفائر الجميلة .
وعلى طاولة الطعام ، هناك أربعة أكواب وأربع ملاعق وأربعة اطباق.. وأربعة كراسي.
لم يكن لأمي كرسي ولا طبق ولا ملعقة.. كانت تاكل بعد ما يكتفِ الجميع.. وتنام على حشية قديمة في غرفة المعيشة .
كنت أعد حتى أربعة طيلة الوقت :
أربع قفزات في لعبة نط الحبل.
وأربع لكزات للأرجوحة الخشبية المتدلية من سقف الشرفة ..
وأربع طرقات بالملعقة تقرعها أمي على كأس فارغ.. ليعلم الجميع ان وقت الغداء قد حان .
وأربع قبلات ، واحدة على جبين كلٍ منا ، إنه وقت الخلود للنوم.
وحين يُطرق الباب ، كانت أمي تعدّ حتى أربعة قبل أن تنتعل حذاء أبي ؛ لتخرج ، وتجيب الطارق.
تظن أمي أن وقع حذاء أبي على البلاط أشد رهبة في قلوب الدخلاء.
هكذا عشنا اربع فتيات و أم . نسقط ، ثم نعد حتى أربعة قبل أن ننهض ، ونعاود المسير.
ثم جاءت الحرب .
لا أذكر أيُّ حرب كانت ، فالحروب ههنا كُثر، توقفت عن عدِّها حين صارت فوق الأربعة .
هجرنا الأسرّة وطاولة الطعام و حقائب المدرسة والاحذية، ونزلنا للقبو.
صفّت أمي حذاء أبي الراحل على باب القبو ليظن المارُّ من هنا أنّ ثمة رجل في المكان .. ولسنا اربع فتيات وسيدة .
تقاسمنا كسرة الخبز وقدح الماء وظلام القبو والخوف والبرد
وكل شيء .. كل شيء كان مقسوماً على أربعة..
دو.. ري .. مي.. فا
واحد اثنان ثلاثة أربعة
كنا نعد حتى الأربعة.. من لحظة انطلاق وميض الصاروخ وحتى ارتطامه بالأرض.
ومع كل أربعة ننطق بها أنا وأخواتي ندرك أن الموت صار إلينا أقرب.
وحين نفذ الخبز وجفّ قدح الماء.. برق وميض عظيم أنار المكان فلمحت في الظلماء وجوه أخواتي ؛
كانت أعينهن متعبة من الخوف و الجوع والظمأ ومن كل شيء.
انطفأ الوميض ، وغلّف المكان صمت مهيب يقطعه صوت ارتطام خرزات مسبحة أمي ببعضها وتمتمات تسابيحها.
واحد
اثنان
ثلاثة
أربعة
دخل الموت من السقف ؛ دون أن يمرّ بحذاء أبي المنتظِر عند الباب.
عدّ الموت :
واحد
اثنان
ثلاثة
فقطف ارواح اخواتي زهرة تلو زهرة .
وحين نطق بالرقم أربعة عانقتني امي لتكون لي قرباناً..
وأيُّ قربان.
كانت روحها سهلة منقادة.. أخذها الموت باشارة من منجله.
خرجت من القبو وحيدة.. أحمل على ظهري حقيبةً خبأت فيها ورقة مطوية كُتب عليها ذات يوم :
غصة
غصتان
ثلاثة
أربعة
ومنذ ذلك اليوم وأنا انتعل حذاء أبي.
لا أدري أصغُرَ الحذاء ام أنني كبرت .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى