أنهيتُ عملي أخيراً، اغلقتُ باب مكتبي وغادرتُ المبنى مُيممةً صوب بيتي .. يتملكني شعور عميق بالذنب، أشعر أن وجودي تحت سقف آمن خيانة وتواطؤ.
في الشارع، بخطى ثقيلة اتوجه ناحية موقف السيارات، اتجاوز متجر بقالة يعلن عن عروض وتخفيضات على مشروبات غازية وحليب للكبار و رقائق للفطور.. السعر الجديد تحت نصف السعر السابق.. معدتي تقرقر جوعاً.. لكن شيئاً ما يشعرني بالغثيان..
أشير لسيارة أجرة… استريح في المقعد الخلفي.. يومض هاتفي المحمول إنها رسالة من صديقتي، انقرُ على أيقونة الرسائل، ثم الرابط : يظهر على الشاشة الذكية، رجل ثلاثيني يركض في مكان تعمه الفوضى ينادي :
_يوسف شعره» كيرلي» وابيضاني وحلو.
فاتذكر مآسٍ شبيهة عشناها مرةً بعد مرة لعقود مضت، وأجهش بالبكاء. يثير نشيجي فضول سائق الأجرة؛ فاجهد لاستعادة اتزاني.
اصل البيت أخيراً. لا أملك دافعاً لأي شيء. استرق نظرة إلى شاشة التلفاز :
كهل يعانق جثمان طفلة صغيرة ويقول :
_ هاذي روح الروح.
فتستفيق دموعي التي جهدت اسكتها طيلة فترة بعد الظهر.. ويسرح خيالي إلى أمي التي قضت في ظروف لا تقل وحشية عما كان ينقله التلفاز تلك الساعة، وعن جثمانها وجثامين الكثيرين الذين لا ندري أين دفنوا وتحت اي أرض ووري عليهم الثرى؟
اهرب إلى صومعتي..
اغفو بثياب العمل.. أطوف في عالم الرؤى.
أجد نفسي في مدينة باردة مهدمة.. يغطيها الرماد وتفوح منها رائحة البارود والدم ..
الفتاة ذات الجديلتين «روح الروح» و «ويوسف»
بشعره «الكيرلي» الجميل يلعبان في ارجوحة احصنة تشخص بألوانها الزاهية وسط الدمار وعلى بعد خطوات ، حلقة ترتيل تترأسها سيدة في الستين تتتلو بصوت أعرفه :
«ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ ….. وبشر الصابرين»
تغلق مصحفها و تلتفت لتلوح لي من بعيد.. ينتفض قلبي.. إنها أمي !
امشي مبتعدة.. لأجد رجلاً يبدو في أواخر اربعينياته يجلس عند نصب تأبيني بشاهد خرساني، يقول دون أن اسأله:
_ إنه ولدي الوحيد كان اخاً لخمس فتيات. سرقته الحرب مني في عامه الثالث ، قضى في حجر امه التي لحقت به بعد أيام.
أفيق من منامي وأنا اتمتم :
_ حرب.. حرب.. حرب.
أحاول ما استطعت أن أهرب خارج إطار هذه الصورة.
و في المساء ألجأ إلى مكتبتي اتنقل من كتاب إلى آخر، من» الطنطورية» لرضوى عاشور إلى غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» ثم وليد سيف و «أيام البلاد» . ثم إلى «شتات نينوى» و «مراثي المدينة القديمة» لغادة رسول.
يدور رأسي.. لماذا يعيد التاريخ نفسه بهذه الطريقة البشعة.. لماذا نكتب للموت؟! وللحرب؟
_لأنه هذا كل ما يحدث……