الأزياء و الموضةسياحة و سفرفنون وثقافة

الأزياء الشعبية في زمن التطوربين فلسفة التغيير وإبقاء التراث

بقلم: مسعودة فرجاني

في البدء، لم تكن الأزياء مجرد ما نرتديه، بل ما نحن عليه. كانت مرتبطة بالمكان، والزمان، والمعتقد، والمناسبة. الأزياء الشعبية الأصيلة هي تلك التي وُلدت من الأرض نفسها التي مشى عليها الناس، لا من المصانع العابرة للقارات. إنها العباءة المطرزة، والكوفية، والجلابية، والبرقع، والشيلة، والطاقية، والقبقاب، والسروال الشامي، والفوطة اليمنية، والعقال، والثوب الفلسطيني، وغيرها كثير.
ما يجعل هذه الأزياء «شعبية» ليس بساطتها فحسب، بل أنها وليدة الحاجات اليومية، مصممة لتلاءم البيئة: في الصحراء والخليج، تحمي العباءة من الشمس والرمل، وفي الريف الجبلي تحاكي الجلابية إيقاع الحركة والزراعة. أما ما يجعلها «أصيلة»، فهو ارتباطها بالذاكرة الجماعية، وباليد التي حيكت بها، وبالرمز الذي نقش على أطرافها، لا بماركة طُبعت على صدرها.
ولم تكن الأزياء الشعبية مجرد غطاء للجسد، بل تعبير عن الحالة والمقام: للزواج زيّه، وللحزن لونه، وللصلاة ثوبه، وللعمل ميدانه. في كل خيط، حكاية؛ في كل زر، قصد.
-الأزياء كهوية: حين نتوشّح ذاكرتنا
في لحظات الانكسار الحضاري، حين تفقد الأمم بوصلتها، غالبًا ما تعود إلى أزيائها الشعبية، لا بوصفها زيًّا، بل بوصفها لغة مرئية للانتماء. نرتدي الكوفية لا لندفأ، بل لنتذكر. نضع على رؤوسنا الطاقية الصوفية القديمة، وكأننا نستدعي جيلًا مضى، جيلًا لم يُهزم في ذوقه رغم بساطة إمكانياته.
الأزياء الشعبية هنا تتحول إلى رموز ثقافية، تعلن عن جذورنا، وتُذكّرنا بمن نكون وسط عالم يذيب الهويات في ذائقة واحدة مسطّحة. إنها الجواب الأنيق على سؤال الهوية في زمن الموضة العابرة.
وفي بعض البلدان، مثل المغرب وفلسطين وسوريا والسودان، تجد الأزياء الشعبية تُبعث في المهرجانات، وتُحيى في الاحتجاجات، وتُستعاد في الأفراح… لا لأنها «موضة قديمة»، بل لأنها خطاب شعبي صامت، يرفض أن يُمحى.
-فلسفة الأزياء المعاصرة: من الجسد إلى الواجهة
في المقابل، تشهد الأزياء الحديثة تحوّلًا جذريًا. من فلسفة تغلّف الجسد بحكمة، إلى صناعة تسلّع الجسد وتفتنه بالعرض المستمر. الموضة الحديثة باتت جزءًا من الإيقاع السريع للحياة، يهمّها أن تبهر، لا أن تعبّر.
سؤال المعنى صار ثانويًا. أصبحت قطعة الملابس تقول: «انظر إليّ»، لا: «افهمني». الأزياء الآن مسكونة بروح العلامة التجارية، التي تصنع الهويّة بمقاس السعر، لا بمقاس الانتماء.
ومع منصات التواصل، تحول اللباس إلى هوية مرئية سريعة الاستهلاك. تغير الشكل، وبه تَغيّرت اللغة. لم نعد نرتدي لنتواصل، بل لنتباهى، لنتمايز، أحيانًا لنتخفّى.
-حضور الأزياء الشعبية في زمننا: عودة الحنين أم عودة الوعي؟
رغم طغيان الموضة الحديثة، هناك عودة لافتة إلى الأزياء الشعبية. ليس من باب الحنين فقط، بل من باب الوعي الثقافي الجديد. فالكوفية صارت رمزًا نضاليًا، والعباءة الخليجية تلبسها نساء شابات بروح معاصرة، والتطريز الفلسطيني دخل عالم الأزياء العالمية من بوابة الكرامة قبل الجمال.
لكن هذه العودة ليست بريئة دائمًا. كثير من دور الأزياء العالمية تستغل الرموز الشعبية بلا فهم، فتستخدمها كزينة سطحية لا كرسالة ثقافية. نرى «الجلابية» تُعرض في عروض باريس، لكن بلا سياق، ونرى «الطرحة» تُحوَّل إلى ملحقات واستعراض، وهنا يبرز الفرق الجوهري بين الاستلهام والمسخ: الأول يحترم الأصل، الثاني يجرّده من روحه.
بعض المبادرات المحلية تحاول استعادة الأزياء الشعبية بفهم حديث: تصميمها بخامات جديدة، دون المسّ بجوهرها. وهذا ما يعطي للأزياء حياة ثانية… لا مجرد عرض في متحف.
-مستقبل الأزياء الشعبية: بين الفلسفة والمتجر
هل يمكن أن تتحوّل الأزياء الشعبية إلى فلسفة للباس؟ هل نعيد اكتشافها لا كتذكار، بل كحلّ ثقافي وإنساني؟
الأزياء الشعبية تحمل إمكانيات هائلة: فهي محلية، مستدامة، تعكس الذوق الجمعي، وتحترم الجسد وتفاصيله. لكن إعادة إحيائها تحتاج إلى ما هو أكثر من عرض أزياء أو برنامج تلفزيوني؛ تحتاج إلى تربية جمالية جديدة، تؤمن بأن الذوق ليس ما يلفت النظر فحسب، بل ما يستدعي الفكر أيضًا.
المطلوب ليس «نسخ» الأزياء القديمة، بل قراءة جديدة لها، تحترم روحها، وتعيد تقديمها كخيار معاصر، لا كحنين مؤقت.
ثورة الذوق قبل الموضة
ربما نحن بحاجة إلى ثورة في الذوق قبل أن نحدث ثورة في الأزياء.
ثورة تعيد الاعتبار لما نرتديه لا من حيث سعره، بل من حيث معناه. ثورة تُخرِج الأزياء من سلطة السوق، وتعيدها إلى سلطة الثقافة. ففي زمن تشظي الهوية، يمكن لقطعة قماش أن تكون أكثر تعبيرًا من آلاف الكلمات.
والأزياء الشعبية، إن أُعيد لها اعتبارها، قد تكون هي الخيط الذي يصل بين الذات والمجتمع، بين الذاكرة والمستقبل.
إننا لا نلبس فقط لنُغطّي الجسد… بل لنعرض الحكاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى