إبداعات الكتاب

ست صور لشجرة توت

بقلم: د. رﺟﺎء ﺻﺎﻟﺢ اﻟﺠﺒﻮري

كان العجوز سين يراقب امتزاج ظلام الليل بنور الصباح؛ إذ ذاب الليل الليلكي في ضياء الفجر القرمزي، فصار الأفق لوحة سحرية، اختلط فيها الأزرق بالذهبي، والوردي بالعاجي، حتى بدا حيًّا يتبدّل كل لحظة.

في اللحظة نفسها، دقّ المنبّه في غرفة السيدة لام معلنًا وقت النهوض.
وبعد ثوانٍ قليلة، صفر إبريق الشاي في مطبخ المعلم هاء، إيذانًا ببداية يوم لا يكتمل إلا بفنجان ثقيل من الشاي.
وعند ناصية الشارع، ألقى عمو الخبّاز تحية الصباح على النجّار، الذي كان منشغلًا بفتح قفل ورشته، معلنًا بدوره انطلاق يوم عمل جديد.

وفي هذه الأثناء، اخترق شعاع الشمس الأول سحابة بيضاء رقيقة، وتسلّل لينفذ من بين أغصان شجرة التوت الواقفة في قلب الساحة، تغتسل بقطرات الندى وتتهيأ لمطلع يوم جديد. رسم الشعاع بقعًا ذهبية على الإسفلت الرطب، وحولها استيقظ الحيّ رويدًا رويدًا، كأن النهار ينهض معها.

عمّ الدفء والضياء أرجاء الشجرة، فارتفعت زقزقة العصافير التي استعدّت للتحليق في سماء لا نهاية لها. أنصتَ الجميع إلى ترنيمتها الصباحية، وتسلّطت أنظارهم نحو شجرة التوت:
• قدّر النجّار كم كرسيًّا وطاولة يمكن أن يصنع من خشبها إن قُطعت يومًا.
• تخيّل الخبّاز دفء الأرغفة التي سيخبزها لو تحوّلت أغصانها إلى حطبٍ في تنوره.
• ابتسم المعلم وهو يشبّه الشجرة بمدرسة، والعصافير تلاميذها.
• تأمّل السيد سين تقلبها مع الفصول، فرآها تلخّص الحياة بأزمنتها: مسرّاتها وحروبها ومهادناتها.
• أما السيدة لام فقد تنهدت، وهي تستعيد ذكرى غرسها للشجرة قبل عشر سنوات، بعد شهرٍ من زواجها وانتقالها إلى هذا البيت. كبرت الشجرة معها، وكبر كل شيء في حياتها.

وفي غفلة من الجميع، انطلق سنجاب صغير يعدو بخفة، يحمل كومة من بذور دوّار الشمس. تسلّق جذع الشجرة واستقر بين أغصانها بقلب مطمئن، كالعائد إلى وطنه وملاذه الأخير.

هكذا، تبقى الشجرة واحدة، لكن كل قلبٍ ينظر إليها يرى حكاية مختلفة، وعالمًا صغيرًا يكتشفه كل يوم من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى