الصورة المرافقة للقصة والتي ستكون معنا على مدى ثلاثين يوماً هي لوحة باليرينا للفنانة التشكيلية المبدعة د. زهراء نوح
الحلقة الخامسة
عنوان الحلقة “مفقود”
إحتدم الصراع على الحدود في ذلك الربيع، و تحدثت الاخبار عن معركة حامية تدور رحاها في جنوب شرقي البلاد.
حمدت ربي أن المعركة كانت بعيدة عن وحدة زوجي . وغاب عن بالي أن الحرب لا تخضع لقانون المسافة .. إنها تضطرم كالنار في الهشيم فتلتهم كل ما حولها قريباً كان أم بعيد.
انتهت المعركة وظهر المذيع على شاشة التلفاز يصدح بعبارات النصر، وبكل سذاجة أنصتُ كمتعاطف يطالع عن بعد . حتى ذلك الصباح الذي مرت بي فيه زوجة خالي في المدرسة حيث اعمل.
كانت العلاقات قد اتخذت منحى سلمي بعد شهور قليلة من مغادرتنا للبيت الكبير .
_ أتعرفين شيئاً عن يحيى؟ سألت العمة.
_لا شيء، أنه في وحدته وسيحين موعد إجازته بعد أيام.
انهارت و عانقتني واجهشت بالبكاء. لم استبين من كلامها غير كلمة واحدة.
_ مفقود!
_من المفقود؟!
وهنا أثبتُ سذاجتي من جديد فقد كان أسوأ ما خطر لي أن يكون المفقود هو زكريا أخو يحيى.
جففت ام يحيى دموعها وقصت على القصة ومفادها؛ أن وحدة يحيى كانت على رأس الفرق العسكرية التي شاركت في معركة أواخر ايار العام ١٩٨٢، وأنه شوهد للمرة الأخيرة وهو ينزل إلى موضع دفاعي تحت الأرض، وقد دمر هذا الموضع بالكامل بصاروخ بعد دقائق من نزول يحيى اليه .
تقطعت انفاسي واحتبس الهواء في حنجرتي فلم يعد لدى القدرة على شهيق أو زفير.
أحسست ان العالم يتجمد من حولي.. كيف سأَمضي في حياتي دون صديقي الوحيد ورفيق دربي ونصفي الثاني.. عدت الي بيت أهلي وانا شبه مغيبة عن العالم… بينما امضت زوجة خالي ما يقارب الشهر وهي ترتحل من مدينة الى مدينة ومن قصبة إلى قرية تتحرى الشهود العيان وآخر من شاهد يحيى حياً من رفاق السلاح
تضاربت الروايات فهناك من قال :
_ نزل يحيى الى الموضع وبعد ثوان قليلة أغار الطيران على الموضع، فاستحال المكان رمادًا، ولم يخرج منه أحد .
وهناك من قال
_ لقد غادر الموضع قبل الغارة بثوان..
تباينت الروايات ، حتى ضاعت الحقيقة بين اختلاف أقوال شهود العيان.
كان الوضع في بيت خالي اشبه بمأتم دون ميت.
أصرت زوجة خالي ان أعود إلى بيتها ، كان الاحساس بالذنب ينهشها حتى يكاد يخنقها ، عدت الي غرفتي القديمة في الطابق الثاني؛ لكنني هذه المرة عدت لوحدي، فقد فقدت اليد التي اعتادت أن تمسح على جراحاتي، وتربت على قلبي… مضى شهر على فقدنا ليحيى، وانحسرت زيارات الأقارب شيئا فشيئاً ، حتى عادت الي ما كانت عليه في السابق.
نال التعب مني؛ فصرت أُنهك لأبسط مجهود، وازداد شحوبي، وضعفت شهيتي بشكل ملحوظ، حتى صرت آكل في يومي ما لا يُشبع عصفورا. صارت نوبات الدوار تتكرر أكثر وأكثر، وأخيرا اخذتني كل من أمي وزوجة خالي إلى طبيب ليعاينني وما أن وضع يده على بطني حتى قال :
_ انك حامل في الشهر الرابع.
يومها فقط تذكرت تلك الروح الصغيرة الاخدة بالنمو في احشائي كنت قد نسيتها في خضم آلام فقدي لرفيق دربي. التفتت إلى الطبيب وأخبرته أني اعلم.
تراوحت ردود أفعال من حولي على خبر حملي ما بين الحزن على صغير سيولد يتيماً ، و فرحة بعوض الله ،وتحدث البعض عن سعادة أخطأت التوقيت ؛ بينما اعتقدت أختي أن سعادتي قد اكتملت أخيرا.
يتبع….