حوارنا اليوم مع الروائية والطبيبة بهية كحيل له طعم ونكهة خاصة حيث تجمع بين عالَمَ الأدب والطب، وهو مزيج فريد يمنحها رؤية عميقة وشاملة للحياة ، وكيف أثرت مسيرتها كطبيبة على كتاباتها الأدبية، والعكس صحيح
معها كان مجلة لـ نورا هذا الحوار :
سألناها كيف توفق بين ابداعها الأدبي، وعملها كطبيبة أسنان قالت :
ذات يوم تم قبولي في كلية طب الأسنان الا أن دراسة الأدب العربي كان حلمي وكلية الآداب كانت مبتغاي ، لكن شاء القدر بضغط من الأهل أن أتابع دراستي الطبية ، ولكن هذا لم يمنعني من السعي نحو حلمي الجميل فيما بعد آلمتني الحياة بما يكفي ، وتجرعت كأس الخيبة المرة ، فأجهدت جسدي بالعمل ، فكان نهاري عمل في العيادة ، وكان ليلي كتابة لأولئك الذين يشبهونني والذين أصابهم وجع انساني دفعوا ثمنه باهظاً من ألق حياتهم ومسراتها ، فأنا رفيقة الفقراء والمظلومين والمضطهدين ، أسمع هسيس روحهم ، أشعر أنني معنية بآلامهم ، بوجعهم الإنساني .
ولما سألناها عن رواية كمنديل في الريح ترصدين فيها معاناة المجتمع السوري وما تسببت به من موت وآلام وحالات لجوء وغربة عن الوطن ، ما الرسالة التي أرادت الروائية ايصالها للقراء أجابت :
ان الصراع داخل سورية تحول الى صراع بين الناس وعليهم ، فالكل حزين ووحيد مثل الليل، والباب المغلق هو بوابة قبر وفكرة موت ، فهناك من فقد منزلاً، من فقد عزيزاً ، من فقد عضواً في جسده ، وهناك من نزح الى ذل المنافي، أو هام في البلاد باحثاً عن المأوى، وفرصة العمل، ولقمة العيش ، الكل سقط في عجز وذهول وفقر ، والحرب على مدى ثلاثة عشر عاماً أخرجت أسوأ ما في نفوسنا ، فكانت سنوات الفرز الكبرى التي كشفت حقائق النفوس، وأظهرت العورات الفكرية والأخلاقية والنفسية التي كانت كامنة في مجتمعنا بأسوأ صورها وأكثرها بشاعة .
وعن سبب القصة القصيرة والرواية وليس جنساً أدبياً آخر قالت :
لأنها ببساطة هي المكان الأرحب للتعبير، فالكتابة بالنسبة لي هي خلاص روحي، هي نبش ما يؤلمني ما فاق قدرتي على التحمل ، فأنا مؤرخة للحظة على طريقتي، ومن منظوري ، شاهدة على عصري ، فأردت ألا أكون شاهدة زاهدة ، أو شاهدة محايدة ، فكتبت هذه الشهادة بكل أمانة ، وأشعر أنني صنعت سجلاً انسانياً لمأساة مدينة تغتال على مرأى ، ومسمع من العالم الذي أثبت أنه بعيد عن الانسانية والمدنية التي يتغنى بها .
وحول تراجع فن القصة أمام الحضور الكبير للرواية من وجهة نظر الكاتبة قالت :
الرواية كجنس أدبي هي الأهم والأبقى، هي تجارب الحياة بين دفتي كتاب ، تحفز خيال القارئ وتحكي تفاصيل بشكل أوسع وأعمق وأرحب وهي قادرة على رسم صورة شاملة للحياة ، قادرة على نقل الإرث المعرفي للشعوب، فهي نص طويل يلم بكافة التفاصيل ، أما القصة القصيرة فتتناول حدثاً واحداً ، وهي غير قادرة على استيعاب الأحداث الكبيرة ، وما الرواية الا مجموعة من القصص القصيرة والمواضيع والشخصيات توثق تاريخ معين وأحداث كثيرة ، فالقصة تحكي أما الرواية فتروي
أرى فعلاً أن الرواية في ازدهار، ولكن هذا لا ينفي وجود القصة القصيرة كقيمة أدبية لها رموزها
وحول مجموعتك القصصية للوداع طقوس ما الإضافة الفنية التي شكلتها تلك المجموعة من وجهة نظر الكاتبة قالت :
للوداع طقوس هي ملامسة لجراح المجتمع ، محاولة أولى للكتابة في أولى سنوات الحرب ، كانت منفذاً للهروب من واقع مؤلم بدأ يفرض ظلاله القاتمة ، تجربة مبكرة وبوح فج لكنه كان ضرورياً فالخطوات الأولى وان كانت مرتبكة فهي ضرورية لطريق الألف ميل ، كتاباتي السابقة هي حجر الأساس للاحقة منها ، ودائماً الأولوية لدي لهذا الكم الهائل من الوجع الإنساني ، وكل المعاني التي تدور في فلكه فلا نيرون روما ، ولا نازية هتلر ، لا المغول ولا التتار ، ولا كل حرائق التاريخ تشبه ما تمر به سورية ، فبتنا نحلم بالسلامة أولاً، وبالسلام ثانياً.
ولما سألناها عن ارتباطها بالمكان وأثره على كتاباتها أجابت :
المكان ذاكرة حية .. جزء من الوجود ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، واغتياله هو تحالف مع الموت ونصرة له، وهنا تلعب الذاكرة دورها في احتضان رائحة الأماكن، فلكل حكاية مكان وأنا من أكثر الناس انتماءً وعشقاً لمدينتي تألمت جداً لما يجري في حاراتها ، أسواقها، خاناتها، ميادينها، ساحاتها، أماكنها الحميمة، حجارتها الدافئة، قلعتها، جامعها الكبير، أصابني هوس في تتبع آثار الحرب في الحجر ، فبدت الأماكن المهدمة أكثر نطقاً من أي خطاب ، فلهذه البيوت التي تبدو فارغة ، ومهجورة قاطنون غادروها طوعاً ، وربما غصباً تاركين صوراً على الحيطان ، وتذكارات في الزوايا ، أو ربما بقوا خامدين تحت ركامها أماكن بدت مثل أشباح شاهدة على ذاكرة الحرب بعد أن كانت تعج بالحياة يجلد روحي كل يوم دمار أماكن ورحيل أحبة .