فنون وثقافة

الشاعرة التونسية خيرة مباركي تؤمن أن الشعر لم يعد مجرّد شكل لحمل مضامين إيديولوجيّة سلبت روحه..

حاورها : عمر شريقي

ضيفتنا ليست مجرد كاتبة وناقدة لها مكانتها على الساحة الأدبية ، بل هي أيضاً فنانة ذواقة تمتلك رؤى ثاقبة في الفن التشكيلي والألوان وأعمالها تنبض بالحب والحياة ، في هذا الحوار، سنتعرف على التداخل بين والرسم والشعر . ولنبحر في عوالم الشاعرة والفنانة خيرة مباركي معًا في عوالم الإبداع ونتعرف على الرحلات الأدبية والفنية التي تترك أثرًا عميقًا في نفوس المتلقي.

خيرة مباركي أستاذة في الأدب العربي. حاصلة على الإجازة في اللغة والآداب العربيّة. ماجستير في الأدب. باحثة دكتوراه، وتقول خيرة عن بداياتها مع الشعر كانت لدي موهبة، مندفعة، يجسّد الشاعر من خلالها أحلامه ويرسم فيها الحياة التي تعشقها روحه. حلّقت مع الشعر دون أن أدرك هذه الذات في ذاتي. ربّما كانت ميولاً تلقائيّة في البداية، وأدركت الآن أنّها كانت حالة من حالات العشق الفنّي. كنت أكتب الشعر باللغة الإنجليزية في مرحلة دراستي الثانويّة، ونفخت فيها مكاشفاتي الصغيرة. لكنها محاولات لم تر النور، ربما لأن تلك الكتابات كانت لي وحدي، تعبّر عن دواخلي في لحظة خاصّة. فلم أرى بدّا من طرحها على الملأ. ثم بعد ذلك بدأت أهتم بنشر نصوصي التي كانت تلاقي إعجابا واهتماما من الكثيرين. وصولا إلى مرحلة جديدة أدركت فيها جملة المبادئ الفنيّة والاختيارات الفنيّة للتجريب والإبداع عبر التوجّه الأكاديمي والنقدي.

وتضيف: «قصيدة النثر» شكل شعريّ مثله مثل بقيّة الأشكال الأخرى، له مقوّماته الفنيّة المميزة التي مثّلت ثورة في اللغة على كلّ المستويات صياغة وتركيباً وإيقاعاً. وهي وليدة حركة تجريبيّة متواصلة، في تاريخ الأدب العربي قديمه وحديثه، نظمه ونثره، ولاقت «قصيدة النثر» اهتمام العديد من الشعراء، بل إنّ أغلبهم انحاز إليها، ومردّ ذلك طبيعة اللحظة الراهنة وما تميّزت به من تطوّر في الذهنيّة العربيّة والإنسانيّة عامّة. ونعني بذلك جملة المتغيّرات التي طرأت على الواقع وعلى إنتاج المعرفة الإنسانيّة. تطورات وقطيعات إبيستيمولوجيّة انهارت فيها النظريات القديمة، وانهار معها إيمان الإنسان بها. وهذا أنتج تفكّكا كبيراً وخاصّة عند الشاعر باعتباره أكثر وعياً بالذات وأشدّ رغبة في اكتشاف العالم من حوله حين تزاحمه الهواجس. هو وعي ضدّيّ كثير التساؤل، أنتج روحا مختلفة في التعامل مع الإبداع. فلم تعد تستهوي الشاعر الإيقاعات المدويّة والصاخبة بل الصور المحلّقة التي تكنه المحظور منه، وتحلّق بأكثر حريّة، مؤمن بأن الشعر لم يعد مجرّد شكل لحمل مضامين إيديولوجيّة سلبت روحه، وإنّما هو مغامرة متجدّدة لاكتشاف شعريّة الأشياء.

وحول سؤال عن مكانة المرأة العربيّة عموماً والتونسيّة خصوصاً في نيل حقوقها أجابت:
تختلف مكانة المرأة العربيّة من قطر عربيّ إلى آخر. وعن وضعيّة المرأة في تونس أقول إنّها وصلت إلى مراتب عالية في كل مجالات الحياة بما في ذلك المجالين الثقافي والبحث العلمي. وهذا يعود إلى ما تتمتع به من مكاسب منحتها الثقة في أن تبدع وتتميّز. أما في أقطار أخرى فأكتفي بالقول بأنّها يكفي أن تواجه الواقع وتنتصر على الموجود لتكون وتفتكّ مكاسبها بيدها، وهذا ما نلاحظه في أغلب الأقطار العربيّة تقريبا، فأن نجد امرأة واحدة أثبتت ذاتها واستطاعت أن توجد لنفسها مكانا في مجتمع الرجال، فهذا يعني أن إرادتها بيدها. لن أقول بأنّه ينقصها الكثير أو مكتفية بما حقّقته من مكاسب وما وصلت إليه من أهداف، بل عليها أن تحافظ على ذلك وأن تكون مكتفية بذاتها وبإبداعها وعلمها.

وتابعت خيرة حديثها لمجلة نورا: الواقع المعاش والمعاناة اليوميّة للمواطن العربي حاضران دائما بالحضور والغياب، إمّا بالتعبير المباشر وهذا طبعاً عبر طاقات الترميز في العمل الفنّي. وإمّا بتغييبه قسراً لننشئ عالما مغايراً مشرقاً على أنقاض هذا العالم، مليئا بالحب والجمال، ومن الطبيعي أن يؤثّر ذلك على كتاباتي، لأنّ الإنسان كائن حساس بطبعه، يتأثّر بما يحيط به. ستجد ذلك الواقع بكلّ أصنافه في العمل الفنيّ حتى لو لم تره في لحظة التقبّل الأولى، وربما يكون الواقع حاضرا كما ذكرت في أعمالي، لكنّ هذا الحضور نتيجة لتفاعل شعوري داخلي، وحركة وجدانيّة صاخبة يمكن أن تحدّد الفكرة الإبداعيّة وألوانها وحروفها ومعجمها. لذلك فالعملية بأكملها لحظة مخاض ووهج شعري أو تشكيلي تأتلق في لحظة بين الوعي واللاوعي.

تقول خيرة مباركي عن بدايتها في الرّسم لما أحسست أن أصابعي تواقة لقلم الرّصاص. وأن الطبيعة تراودني لأخط نغماتها على أوراقي. عشقت الألوان حين داعبت أعماقي وبصري فأطلقت لها العنان لأصل الى المسابقات التي فزت فيها مرات كثيرة في تونس، على مستوى وطني. وهذ من شأنه أن يكون منطلقا لزرع الثقة في نفسي لأخوض غمار المعارض رغم صغر سنّي. وكانت الجامعة فضاءً رحباً لأمارس هوايتي وأنمي طموحاتي. عندها قررت أن أصنع نفسي بنفسي ولكن الضغوطات السياسية والاجتماعية جعلتني أبتعد لفترة طويلة وأنغمس في الحياة العملية كأستاذة في الأدب العربي.

وتابعت : أعتمد على كل المدارس الفنية ولا أستلهم من واحدة بعينها، تتعبني وتشتّتني القيود، لذلك تجد صدى العديد من المدارس في أعمالي. وأعترف أنّي ميّالة إلى المدرسة الرومنسيّة والرمزيّة ولكنّ أحاول أن أتنصّل من قيودهما بأن أجمع أحياناً أكثر من مدرسة، وأحيانا أطعّم السرياليّة بالرومنسيّة وهكذا.

وحول سؤال عن نشاطها التشكيلي والنقد أجابت: أقمت معارض عديدة منها ما كان فرديّا ومنها ما كان مشتركا وآخرها مشاركتي في معرض عالمي بعنوان ألوان حالمة تحت إشراف الفنان التشكيلي العالمي الدكتور خالد نصار . ومنه إلى خوض تجربة وثيقة الصلة بين الفن التشكيلي والنقد لتكون مشاركتي في النقد التشكيلي ضمن إدراجي ضمن لجنة النقد في الموسوعة العالمية : موسوعة الماسة في الخط العربي والفن التّشكيلي التي ستترجم إلى الاسبانية والانجليزية والفرنسية تحت إشراف الباحث الناقد الدكتور محمود فتحي وفنانون بلا حدود، إضافة إلى مشاركتي في مهرجان الدولي للفلم العربي بمدينة قابس ضمن ندوة حول السينما العربية كناقدة سينمائية وهي تجربة ليست بعيدة عن التجارب النقديّة الأخرى .

وحول سؤال عن دور الناقد في تطوير الفن والمشهد الثقافي قالت: للناقد دور كبير في تطوير المشهد الثقافي، هذا إذا فهمنا المعنى الحقيقي للنقد والناقد. النقد قراءة عقلانيّة للنص، تكتنه مجمل قيمه الفنيّة وإشاراته القريبة أو البعيدة باعتبارها طاقة لتوليد خرائط المعنى، تستدعيه غائباً وتسائله حاضراً وبين الحضور والغياب يخترق أعماقه وينصت لأصواته. على هذا الأساس يبقى النصّ المبدَع فعلا لا يزال بصدد التشكّل يكتمل بالقراءة فينشأ من الموجود اللغوي وأنساقها الجماليّة والتعبيريّة معنى ناشئاً بصدد التغيّر مع كلّ قراءة.
إنّه سلطة معنويّة على الشاعر والمبدع في كل المجالات، وهذا مأتاه التعلّم أساسا، لأن كل قراءة هي فرصة خلق إبداعي وانفتاح على ممكن جديد في النص والرؤية. والناقد قارئ من درجة عالية تختلف عن القارئ العادي، يعتلي أرفع درجات القراءة وأكثرها تعقّلاً ودربة . هنا يمكن أن نوجد علاقة بين الإبداع والنقد. فلئن كان الإبداع «خلقا واختراعا» فالنقد سيكون « تمييزا وتثمينا وتقييما».. هنا يكون تطوير الفنّ ويوكل للناقد دور التنظير والبحث عن الجديد في المنجز المتوفّر، يعني الحفر عن جماليات النصّ والتأسيس لجماليات جديدة من عمليّة التقييم، وإذا تجاوز هذه المهمة ليكون سيفا مسلّطا على الرقاب فهذا ليس نقدا بل انتقادا. لأنّ البعض يحوّل العمل النقدي إلى حالة ذاتيّة مستقلّة عن أبعاده الفنيّة والعلميّة الموضوعيّة.

وختمت حديثها تقول : من الطبيعي أنّ هناك دائماً رسالة نسعى إلى إيصالها من خلال أعمالنا الفنيّة، ونحن نعلم أنّ الفنان صوت العالم وضميره الحيّ وقلبه النابض بالجمال، فمن يبدع ويتمخّض لحظة الخلق الفنّي تساوره لحظة التلقّي وما يمكن أن يؤثّر في المتقبّل. فعمل الفنّان أكثر من مجرّد تصوير أحاسيسه ومشاعره ورؤيته للعالم. هو ينقل تلك الأحاسيس والرؤى فتغدو كونيّة لا تقتصر على فرد في زمان ومكان معيّنين. وأكثر من ذلك يمكن أن تمكّن من استكشاف المفاهيم المجرّدة وتعزّز رؤى ناشئة جديدة تحفّز على إنتاج وعي جديد بالوجود في شتّى ميادينه النفسيّة والعاطفيّة، والاجتماعيّة وكذلك السياسيّة والأيديولوجيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى