مضت الوالدة باشا إلى حال سبيلها … كانت نادية تبدو كمن فتح عينيه على إضاءة شديدة بعد مكوثه في العتمة لوقت طويل … الانقباض الذي يحيط عينيها والهالة السوداء المخيمة على وجهها كانا يتلاشيان يوماً بعد يوم ، وأنا امدّها بالدعم الذي تحتاجه بعبارات مثل:
_ الحمد لله الذي رفع الغشاوة عن عينيك .
_ هكذا احسن ، على الاقل عرفته على حقيقته .
_ ما راح راح علينا بما هو آتٍ .
وأشياء أخرى تشبه.
وذات ليلة كنت امضيها كالكثير من لياليّ اتنقل بين صفحات كتاب … وثنيات مفكرتي وشاشة الهاتف .. أعلن هاتفي استلامه رسالة واتس آب .
نقرت لأستطلع الحكاية ، بصمة صوت من رقم اجنبي … صوت رجولي :
_ مرحبا انا أحمد الفلاني ارجو إيصال رسالتي إلى أم تارة .
انتهت البصمة .
ولكن اين الرسالة؟؟
كوني لا أطيق الانتظار ، عدت إلى مفكرتي ، كان لدي عمل كثير خاصة بعد أن قررت أن اكتب قصة صديقتي في كتاب …
كانت الكلمات تنساب من قلمي دون وعي مني … فتحفر الورق؛ لشدة من تحمله من وجع :
كان كل ذنبي أنني آثرت حسن النية وقربت حسن الظن … ورفضت أن اكيل الشر بالشر … كنت أريد أن أعيش أن أحِب وأًحَب … وهذا ما جنيته خيانة وخذلان .
هذا ما كنت ادونه في مفكرتي عن لسان بطلة القصة التي منحتها اسماً مستعاراً ، حين قطع سلسلة افكاري رنين هاتفي … ..
بصمة صوت جديدة وفدت إلى الواتس من الرقم الأجنبي ذاته:
_عيني نادية علمت من أمي انك ترغبين في الزواج وهذا من حقك … انت طالق
طالق
طالق
تستطيعين البدء بإجراءات التفريق القانونية بأقرب وقت .
انتهت البصمة … هكذا وبكل بساطة انتهت حياة زوجية عمرها سنوات .. سنوات من الحب والتضحيات والصبر والانتظار .. إنتهى زواج كان قد أثمر عن ثلاث بنات …كلمة من أربع حروف في رسالة صوتية عبر الأثير … كلمة من أربع حروف تلغي العقود والمواثيق ولكنها ستطلق أجنحة الطائر الحبيس .. ستطلقها للريح والحياة .
جزء كبير مني كان سعيداً بحصول نادية على حريتها ، ولكن متى طلبت نادية أن تتزوج ؟! … لابد انه فنّ الوالدة باشا ،لقد عبثت بالحقائق وتلاعبت بالوقائع حين نقلت الصورة إلى ابنها .
كان الوقت متاخراً حين أنهيت ترتيب افكاري فآثرت حبة منوم على التحرك بأي اتجاه ، والصباح رباح …
وفي التاسعة صباحاً كنت اجلس قبالة نادية في الغرفة التي عملت فيها لسنوات قبل ان أستقيل من عملي … الكل هناك يعرفني ويكيل لي الحب والإحترام وهكذا كانت مهمة استحصال رخصة مغادرة لنادية من رئيسها المباشر سهلة ..
وإلى البيت مباشرة …
_كيف حالك.
_ بخير .
_ قلبك قوي ؟
_لماذا ؟
_ بدون لماذا . ليكن قوياً .
تناولت الهاتف ونقرت أيقونة واتس آب … وبعدها الرقم الأجنبي ثم بصمة الصوت الاولى …
مسحت بعينيّ ملامحها فوجدتها في حالة ترقب .. فنقرت البصمة الصوتية الثانية دون تردد .
رفعت حاجبيها في إشارة تعجب حين جاءها صوته يقول :
_علمت انك ترغبين بالزواج .
وقبل أن تحرك لسانها أشرت إليها بالصمت لتكتمل الرسالة وحين نطق كلمة طالق ،سقطت على كرسيها كمن استقر على كتفيه جبلان .
اغلقت شاشة الهاتف وعاجلتها بالقول :
_مبارك حريتك وشفاءك من أحمد.
لم تكن الايام التالية سهلة على إمرأة مثل نادية لا تمتلك الكثير من الجَلَد ، وتؤمن ايمانا مطلقاً بأسطورة الحب الأزلي .. ولم تكن لتكون سهلة ولا على اشد النساء بأساً .. فكسرها طلاقها .. لكن الوقت سيتكفل بمداواة كل الجراح .
صارت أحاديث نادية معظمها برعاية ..
_اين كان عقلي؟
وبعد إيام جمعتنا شجرة الميلاد ونار الموقد لنحتفي ببداية جديدة … بداية عام ..
وقبل أن تنتهي السهرة سألتني :
_ لماذا حدث لي هذا ؟
تنفست بعمق وسرحت بتفكيري .. يتعبني البحث عن اسباب و مبررات لأحداث للماضي … ماذا سنجني غير الحسرة لو وقفنا على الأسباب .. لن نعيد الايام التي ضاعت ولا السنوات التي تبددت … فكان جوابي كلمة من أربع حروف :
_ نصيب.
ثم أخذت نفساً عميقاً اقرب ما يكون إلى تنهيدة وقبل أن أكمل زفيري.. دقت الساعة معلنة نهاية عام وبداية آخر.
إنها المعرفة يا صديقتي باهضة وتكلف الكثير .. ها قد تعلمتِ أن سعادة تأتي من قلب ينبض خارج قفص صدرك .. هي سعادة ينقصها ضلع … سعادة لا يعول عليها .. الناس عاجزون عن إسعاد أنفسهم فكيف سيسعدوننا ..
عاشت نادية بعدها بسلام … عاشت لنفسها ولبناتها .. نعم خسرت اجمل سنوات عمرها لكنها على الاقل أوقفت سيل الخسائر ، وربحت المستقبل .
ماتت الوالدة باشا بعد أشهر من مغادرة بيت نادية ماتت كما يموت الجميع ، الموت هو نهاية كل الارضيين الصالحين منهم والطالحين .. لا يمكنني أن انظر اليه كعقاب ..
أما اخبار أحمد فلا شك انها ستأتيني يوماً .
تمت …